
غلاف الرواية

لنا عبد الرحمن في تجربة روائية صاخبة
************* بقلم : يسري حسين*
نقلتنا الروائية لنا عبد الرحمن ،إلي بيروت ولبنان للاستماع والإنصات إلي تجربة إنسانية ، تم نسجها في إطار أدبي فذ ، يستنطق فن الرواية العبقري وقدرته علي تجسيد النبض ورسم صور الإيقاع الإنساني ،والانتقال عبر موجات الصوت والجُمل الموسيقية الإنسانية ، التي تتدفق فيما يشبه السيمفونية الكاملة ،التي تتنوع أمواجها وتتدفق بعنف شديد وتصطدم بصخرة "الروشة " الموجودة علي الشاطئ البيروتي الجميل . تدفق اللحن الروائي في حركات متتابعة يجعل القارئ ينتقل من صفحة لأخري ،وهو في حالة انجذاب للحدث الروائي الصاخب ، الذي يجري تسجيله من خلال سرد فتاة تتحدث عن نفسها وعائلتها ووطنها ،وتنسج لوحة كبيرة ممتلئة بالأحلام والهواجس والكوابيس ، تتراجع في نغماتها عاطفة الحب ،مع هيمنة القلق والشك وعدم القدرة علي تجاوز الحاجز المخيف ،الذي يمنع البشر من التفاعل مع السعادة والشعور بعاطفة اليقظة الوجدانية والتمرغ في حقولها البديعة • الكاتبة اللبنانية لناعبد الرحمن
************* بقلم : يسري حسين*
نقلتنا الروائية لنا عبد الرحمن ،إلي بيروت ولبنان للاستماع والإنصات إلي تجربة إنسانية ، تم نسجها في إطار أدبي فذ ، يستنطق فن الرواية العبقري وقدرته علي تجسيد النبض ورسم صور الإيقاع الإنساني ،والانتقال عبر موجات الصوت والجُمل الموسيقية الإنسانية ، التي تتدفق فيما يشبه السيمفونية الكاملة ،التي تتنوع أمواجها وتتدفق بعنف شديد وتصطدم بصخرة "الروشة " الموجودة علي الشاطئ البيروتي الجميل . تدفق اللحن الروائي في حركات متتابعة يجعل القارئ ينتقل من صفحة لأخري ،وهو في حالة انجذاب للحدث الروائي الصاخب ، الذي يجري تسجيله من خلال سرد فتاة تتحدث عن نفسها وعائلتها ووطنها ،وتنسج لوحة كبيرة ممتلئة بالأحلام والهواجس والكوابيس ، تتراجع في نغماتها عاطفة الحب ،مع هيمنة القلق والشك وعدم القدرة علي تجاوز الحاجز المخيف ،الذي يمنع البشر من التفاعل مع السعادة والشعور بعاطفة اليقظة الوجدانية والتمرغ في حقولها البديعة • الكاتبة اللبنانية لناعبد الرحمن
" ندي " بطلة رواية " تلامس " تضعنا منذ افتتاح الرواية علي حركة فنية شديدة الإثارة ، تترجم لغة التعبير الفني المتألق ،عندما يبدأ المشهد الأول بلحظة صدام وأزمة عارمة ومثيرة للغاية ، فنحن نتذكر عندما هبط عيسي الدباغ بطل رواية " السمان والخريف " إلي محطة السكك الحديدية بالقاهرة ، وكانت العاصمة المصرية تحترق ،في إشارة لإنهيار البنيان القديم كله وإزالته عن المشهد الحقيقي ،مما ترتب عليه الزلزال الصاخب ،الذي أطاح بمجد الدباغ ،إذ فقد وظيفته الحزبية ومكانته علي عرش حزب الوفد المصري قبل الثورة ،وسقوطه بالتالي في أزمة عارمة انتهت به إلي شواطئ الإسكندرية ، حيث يعاني الضياع والإفلاس والخواء وظل يبحث عن المعني دون جدوي •
لنا عبد الرحمن تفتح روايتها بمشهد عن جنون عمة بطلة الحدث ووجودها في مستشفي للأمراض العقلية • وتصف اللقطة الجامحة مظاهر هذا التوتر بحيث تدفعنا إلي الشعور بالواقع والألم والثرثرة الوجودية البالغة الثراء ،إذ هناك حالة من الخروج علي العقل وغرق الإنسان الذي يندفع في دوامات هذا المرض العنيف ،الذي ينزع الهدوء ويحل بدلاً منه الهوس والاضطراب •
و" ندي " تشعر بالخوف من تحولها إلي الطريق ذاته ،مع وجود نفس مرهفة تشعر بالقلق الشديد مع الخوف أيضاً ،الذي يلاحقها عبر كوابيس مفزعة وأحلام مخيفة ،بالإضافة إلي مناخ عام تنفجر فيه الخلافات والأوضاع الإنسانية المريرة • لقد نشأت الفتاة الرقيقة في ظل غياب أمها ،التي تركت أباها وانفصلت عنه ،وذهبت إلي " دبي " حيث المال والثراء والزواج الجديد • وأب الفتاة شبه غائب ،تأكله لحظات الروتين اليومية والشعور بالفشل والإنغلاق داخل ذاته ،حتي انه لا يري ابنته او يلتقيها مع أنهما يعيشان في منزل واحد •
هاجس العمة المجنونة وغياب الأم والأب ،بالإضافة إلي تراكمات الحرب الأهلية اللبنانية علي الواقع ،مع عدوان إسرائيل المستمر ،ينزلق الواقع اللبناني إلي لحظات جنونية تنعكس علي سلوك الأفراد ،مما يعني تفتت العلاقات الداخلية مع انفصال الأزواج عن بعضهم ،ووجود حالات خيانة وهجر وقتل ،مع عدم القدرة علي التواصل والوقوف علي حدود التلامس فقط لغياب العزيمة وقدرتها علي اختراق الحاجز ،واختيار الوقوف عند الخطوط الفاصلة •
تنمو" ندي " في هذه الأجواء وتنحصر داخل ذاتها ،في ظل التعامل مع " النت " والدردشة مع آخرين والتعرف علي القصص الرومانسية الحالمة لأفلام الأبيض والأسود ،والإهتمام بحياة شاعرة لبنانية كانت تعيش في المهجر ،وبقاء الذات محاصرة في أحلامها أو بالأحري كوابيسها ،مع عدم قدرة علي الهروب من هذا المصير الفاجع نتيجة الفشل في الانطلاق نحو الآخر والانغماس في تجربة حب ،تكون قادرة علي إلقاء طوق النجاة للغرقي في بحار العجز والضعف •
تلتقي " ندي " محمدو ،الذي يشكل النقيض لها بشبابه وحيويته وحبه للسفر والتنقل ،وعلي الرغم من اهتمامه بالتراث الشعبي الإفريقي ،لا يغرق في نهر الخرافات التي تحيط بعالم بطلة رواية " تلامس " ،إذ تراكم الحديث عن أسباب جنون عمتها بسلسلة من الحكايات الخرافية عن الجن الذي سيطر عليها وانجذب إلي جمالها وهي تقف أمام المرآة •
محمدو دعا " ندي " لمغامرة العشق الجامح ،القادر علي منح الشخصية فرصة الهروب من العجز والضعف ،لكنها لم تكن قادرة علي المغامرة ،والقفز خارج هذه الدائرة ،وظلت أسيرة لبيروت وأحزانها وخبرتها الطويلة بشأن حرب أهلية ،ثم أخري إسرائيلية ،وثالثة تشتعل وتحاصر الفتاة الحالمة الرقيقة التي تحب الموسيقي وأفلام السينما الرومانسية •
تتحدث " ندي " عبر مونولوج داخلي فتقول : أكثر ما كان يخيفني أن أصير مثلها ،وأن تكون نهايتي مثل نهايتها •
هذا الهاجس المقلق يطاردها منذ السطر الأول حتي النهاية التي تتطابق مع مشاعر الخوف ،حتي ينتهي المشهد الأخير في مستشفي الأمراض العقلية بعد وفاة العمة المجنونة وتدخل " ندي " المكان نفسه وتنتابها حالة من الفزع والهذيان مع انطلاق القنابل والمدافع في تكرار لمشهد الحرب الذي لم تعشه خلال اندلاع الصراع الأهلي ،لكنه يأتي إليها مع هجوم إسرائيل علي الضاحية الجنوبية في بيروت ذاتها •
تنطلق الروائية من مشهد روائي إلي آخر ،من الكوابيس إلي أحلام الحب الوردية ،والرغبة في العمل والبحث عن وظيفة ،أو الاستغراق في سيرة حياة شاعرة لبنانية مهاجرة •
لا تستطيع الذات الانغماس في مشروع يجذبها بعيداً عن الكوابيس والأحلام المرهقة ،لم تكن تملك قوة الدفع حت تخرج من هذه الدائرة الجهنمية ،إذ استسلمت للموت والأفول ،وتركت حياة العقل والوعي تنزلق منها لعدم وجود دافع التحدي أو الإصرار للسباحة ضد التيار •
تذكرني بعض مقاطع الرواية بشريط سينمائي صنعه الإيطالي العبقري " فيسكونتي " في فيلمه الرائع " الموت في فينسيا " إذ يفشل الأديب والفنان في معانقة نموذج الجمال الذي يراه أمامه ،وعندما لا يتمكن من الوصول إلي لحظة السعادة المطلقة ،تنهمر الأمواج الصاخبة مع موسيقي " مالر " الحزينة والعنيفة في الوقت نفسه تعبر عن حب ضائع وأمل يتبدد •
وعندما كنت أقرأ قصة " ندي" مع محمدو ،كنت أجد في تفاعلها الرغبة للخروج من داخل شرنقة العبث الوجودي ،لكن أمواج العجز هي التي أطاحت بالمشهد كله ،نتيجة الخوف والرعب من التداخل والتفاعل ،إذ اختارت ندي " التلامس عن بعد والإنذواء بعيداً عن ضجيج التجربة ،وفضلت الانسحاب والهرب بسرعة بعيداً عن طوق النجاة الذي جاء إليها عبر عاطفة رجل يحبها •تستعرض " ندي " في حالة سرد روائي باهر ،شخصيات تحيط بها ،تعيش لحظات القلق بدرجات متفاوتة ،تبحث عن نفسها في ظل خلافات الأديان والمذاهب وتلبد سماء الحياة بغيوم كثيفة ،نتيجة مباشرة لحرب أهلية انفجرت داخل شعب واحد ،وأحدثت هذه الفوضي ،التي لا تزال بصماتها واضحة علي نفوس البشر وعقولهم •
غرقت النفس اللبنانية ،نتيجة صراع مروع ،فجر الحرب الأهلية التي وصلت إلي درجة عالية من البشاعة والتمزق والجنون • وعلي الرغم من إعادة بناء المكان في قلب " بيروت " بالمتاجر والمقاهي الجميلة ،فمازالت النفس تعاني من آثار هذه الحرب في ظل استمرار التوتر وانفجار القنابل الخلافات هنا وهناك •
تنعكس حالة القلق بعد هذه الموجة العارمة ،علي أحوال البشر ،وعلي الرغم من أن " ندي " لم تعش هذه الأيام الحزينة ،غير أنها تسمع عنها وتلمح تفاصيل في قلب السلوك المضطرب الذي يدفع نحو التمزق وعندما يقتل رجل زوجته بدافع الغيرة أو الخيانة ،وتنتحر زوجته رداً علي فعل غير أخلاقي يهز القيم والعادات بشكل عنيف ،عندما تري زوجها في حضن شقيقتها علي سريرها • هذه المآسي تعكس درجة واضحة في عمق وعي الذات بنفسها واحوال مجتمعها ،وهي تهرب من كل هذا الإرث و ملاحقات الأشباح ،إلي صور الفنون والموسيقي وأفلام السينما لعلها تجد العلاج والخلاص •
وهي تدرس علم النفس ،لكنها لا تعرف الطريق لمفتاح شخصيتها للعثور علي أداوت الممانعة لحماية الذات من السقوط في دائرة الخوف والقلق والعجز •
تستخدم الروائية أسلوب السرد ،الذي يقترب من لغة الشعر ،إذ إن ندي مشبعة بقراءات وثقافة عريضة ،وهي محاطة بمثقفين في الجامعة التي تدرس بها ،كما تستمع إلي انتقادات من شخصيات مثقفة ،إذ يتحدث أحدهم عن أن الجيل السابق لها كان يقرأ ثقافة أوروبا أما جيلهم فهو ضحية لثقافة أمريكية استهلاكية تهيمن علي كل شيء تقريباً •
تعتمد الكاتبة علي حبكة روائية عالية الترابط في حذق فني يعبر عن قدرة تجميع هذه الجزئيات في رسم صورة ضخمة للبنان كله وبيروت من خلال قراءة ملامح هذه الذات الخائفة من شبح الجنون الذي يظل يطاردها حتي ينجح في القبض عليها في النهاية • تستخدم الكاتبة مفردات اللهجة المحكية اللبنانية في الحوار وتعليقات للشخصيات الموجودة في الدائرة الضيقة والمتسعة التي تمثل درجات العيش في هذا المجتمع والكيان المتحرك •
عادت لنا عبد الرحمن إلي تجربة متكاملة تدور في لبنان وهي التي تعيش زحام القاهرة وضوضاء وحيوية الحياة فيها وتنغمس في نهرها الثقافي وجدلها الفكري •
وعندما يخرج الكاتب من محيط مجتمعه إلي آخر ،يتبلور الأول بشكل كامل ويستطيع الإتصال معه عبر نماذجه الإنسانية بليغة الدلالة والثراء في لغة التعبير •
في مشهد أخير ،تفقد " ندي " هاتفها الجوال وحقيبة ملابسها ،وتحاول الهرب في سيارة أجرة للخروج من " بيروت " إلي الجبل ،أثناء هجوم الطائرات الإسرائيلية ،تجد نفسها ضائعة ووحيدة لا أم ولا أب ولا جدتها التي رعتها منذ طفولتها •
في هذه اللحظة الوجودية الصارخة ،تنطلق قذائف الطائرات المغيرة علي سكان العاصمة ،وتحدث القنابل الفزع والهلع ،ولا تجد " ندي " أمامها سوي الذهاب بعد تعثر خروجها إلي الجبل ،سوي مستشفي الأمراض العقلية لزيارة عمتها ،لكنها تعرف بخبر موتها ،وتتداخل مناظر الوعي مع سقوط القنابل والشعور بالهلع ،وانتقال المشهد إلي محطة جنون أخري تعبر عن المنظر الخارجي المرتبط بجحيم الحرب •
رواية فيها الكثير من الشعر الفني الجميل ،الذي يتحدث عن نفوس قلقة ومجتمع ممزق وعواطف لا تعرف الطريق نحو الاستقرار • كل هذا يتم في حذق فني شديد من خلال حركات سيمفونية تنتقل من موجة لأخري ،في اندفاع صاخب من المشهد الأول ثم المرور بتهدئة حزينة وعاطفية ،ثم تعود النغمات إلي التراكم للوصول إلي لحظة الذروة في مستشفي للأمراض العقلية •
رواية رائعة بهذا السرد الجميل المختصر ،والجمل الحوارية والمونولوج الممتد من أول سطر إلي نهاية حزينة ،نسجتها الروائية بتمعن شديد وبقدرة علي الإمساك بزمام لغة التعبير التي تحتضن قراءات واطلاعاً علي تصوف وأدب وشعر ،امتزج في نسيج البناء الفني ،وجاء في " تلامس " ليشير إلي روائية بهذه الحصافة والموهبة •
لقد ظللت لمدة أتهيب الاقتراب من الرواية ،كنت أشعر بزخمها النفساني العميق ،وعندما انتهيت من القراءة ثارت في النفس عاطفة جامحة نتيجة ثراء شخصية " ندي " وصدقها وعدم الادعاء ولغتها البسيطة الفاضحة لذات غير قادرة علي التعايش مع واقع الجنون والإحباط ،وعدم إدارك المشاعر لحساسية وعظمة نهر الحب ،الذي أحاطها من كل جانب ،لكنها هربت منه ،لأنها لا تستطيع سوي ممارسة خبرة التلامس عن بعد ،وتخشي الاقتراب والانخراط في الآخر ،لأنها لم تعثر علي نفسها في ظل هذا الاضطراب العارم الذي يحوطها من كل جانب ،في دلالة علي فوضي كونية وأخري وجودية تسحب رياح الحب ،وتأتي بأخري مع هذيان القنابل وضجيج الموت والانفجارات •
* كاتب مصري مقيم في لندن
* كاتب مصري مقيم في لندن
اجزاء من رواية "تلامس" للكاتبة لنا عبد الرحمن
********
أكثر ما كان يخيفني، أن أصير مثلها.
أن تكون نهايتي مثل نهايتها.
كوابيسي عنها لا تنتهي، ثم الأشباح… الأشباح التي تأتي ليلا لتهز سريري وتمضي، تتركني أحدق في فراغ غرفة ملبدة بالضباب ولون رمادي كثيف يشبه البخار المتصاعد من قدر هائل الحجم، وخيوط لا مرئية تتمازج ألوانها بين البترولي،الأسود، والكحلي القاتم، ألوان تشعرني بالجفاف الشديد في حلقي، كما لو أنها وجدت في هذا الكون لإفزاعي فقط.
استيقظ في الليل مرعوبة بسبب كابوس يتكرر.أشاهد نفسي نزيلة مستشفى المجانين، “دار العجزة” أو “المأوى”، أكثر الأسماء التي تسبب لي الهلع.
دراستي “علم النفس” لم تحررني من هذه “الفوبيا” المرضية، ظننت أني سأتخلص من كوابيسي، ومن ذكرياتي، سيصير ترددي على “المأوى” أمراً عادياً، أقوم به كلما طلب مني القيام ببحث ما، لكن الأمور لم تسر على هذا الشكل، وظللت أصاب بالرعب كلما صعدت إلى السيارة وقلت للسائق: “المدينة الرياضية، نزلة مستشفى العجزة”.
منذ عامين صرت أذهب لزيارتها وحدي.لم يبق سوى أنا وهي، تدريجيا ضاقت الدائرة عليها بعد موتهما.
جدتي كانت تقول أنني أشبهها، أحدق في وجهها بخوف وصمت كلما حكت عن جمالها حين كانت صبية، تنظر في وجهي قائلة:”ايه شو بك، عمتك هيدي كانت قمر بصباها، كانت بتشبه مريم فخر الدين، أنت طالعة بتشبهيها ، مش المتل بيقول: “خذوا البنات من صدور العمات”.
بماذا أشبهها أيضا؟، هل ورثت عنها ذات الشيطان؟ ،الشيطان الذي يلهب لي جسدي كلما أيقظني ليلاً.أبلع ريقي وأصاب أكثر بالخوف، هل ستكون نهايتي مثلها، “مجنونة” لا يزورها أحد؟هي كانت أجمل مني بكثير، أنفي الطويل الذي ورثته عن أمي، وبشرتي المائلة إلى الأصفر لا يقارنان بلونها القرنفلي، بعينيها العسليتين ، وملامحها الدقيقة.
لو أنني تزوجت، لو لم انجرف وراء شغف علاقتي مع “محمدو” وأفسخ خطوبتي من كامل، ربما كنت الآن أكثر هدوءاً وأقل وحدة.هي أيضا لم تكن مجنونة منذ البداية، ولم تكن وحيدة، كل الأشياء تصاعدت رويداً رويداً حتى وصلت لهذه النتيجة.
لا أعرف كيف بدأت تمرض، وكيف جنت. لا أحد من العائلة أو الأقارب يتفق على بداية مرضها، وكيف صارت مجنونة.حادثة مرضها يتكتم عليها الجميع، وكنت أسمعها بصيغ مختلفة من كل شخص في العائلة.
أبعد ما أذكره أنني منذ بداية تشكل وعيي الأول وأنا أذهب لزيارتها مع جدتي في “مأوى العجزة”، كلما عاودتها نوبة عصبية ونقلتها جدتي برفقة أبي إلى المستشفى لتظل فيه شهراً أو أكثر قبل عودتها إلى البيت.
“مأوى العجزة” الذي يتكون من عدة طوابق، وينقسم ما بين مصح للأمراض العقلية للنساء والرجال، وبين نزل لإيواء المسنين. إنه المكان الذي وضعت قدميّ الصغيرتين فيه أول مرة وأنا طفلة في الخامسة.
ما أن نصعد أنا وجدتي إلى الطابق الثاني المخصص للنساء اللواتي يعانين من مرض عقلي أو خلل نفسي ، حتى تبدأ رفيقات عمتي المريضات بمحاولة مداعبتي، إحداهن كان اسمها “أسماء”، كانت تبكي كلما رأتني، تحكي عمتي لجدتي حكايتها على مسمعي، كيف حرمها زوجها من أبنائها الثلاثة ووضعها في المستشفى رغم أنها طبيعية تماماً، لكن أسماء لم تكن تبدو عادية أبدا. أما “سعاد” فقد توقف نموها الذهني عند التاسعة من عمرها. الأجمل بينهن “هلا”، كانت تعطيني الشوكولا والبنبون، عمتي تقول بأنها “تقع بالنقطة” حينها لم أكن أفهم مجاز العبارة بأنها تقصد نوعاً من الصرع ينتابها فجأة بلا أي مقدمات، لكن “رويدا” التي تنحدر من عائلة كبيرة في “بعلبك” كانت مدمنة على “الكوكايين”. حكت عمتي لي بأنها بدأت بتعاطي الحشيشة منذ السادسة عشر من عمرها، وبعد زواجها من ابن عمها الذي يتاجر بالحشيش أيضاً أدمنت على الكوكايين بعدما صار يعقد صفقات مع تجار يقومون بتخزين الكوكايين عنده قبل نقله براً إلى بلدان عربية مجاورة، خاصة أيام الحرب عندما كان لبنان من الدول المصدرة للمخدرات.
هؤلاء كن رفيقات عمتي في مرضها، رسخن في ذاكرتي، رغم عبوري من الطفولة الى المراهقة والشباب، إلا أنني مازالت أذكر ملامح وجوههن المريضة وأجسادهن المهدودة من جلسات الكهرباء.
*****************************************
ارتديت بنطلون الرياضة القطني الأزرق , وتي –شيرت أبيض , ونزلت الدرج الى أسفل المبنى , دخلت الى فرن "عبدو " , أوصيت على منقوشة جبنة , ثم اتجهت نحو المكتبة القريبة , اشتريت الجريدة , عبرت الشارع كي أعود الى الفرن , سيارة حمراء تعبر من جانبي بسرعة البرق , تترك خلفها غمامة عالية من الغبار أشبه بزوبعة مفاجئة , عامل الفرن لم ينته بعد , أقف بانتظار وجبتي المرتقبة , الوهج المنبعث منت النار يتسرب الي ,’ أحس ببداية نوبة حساسية الصدر , سأصعد الى البيت حالا وآخذ الدواء , وأنا أنظر للنيران المشتعلة في الفرن تذكرت حلم ليلة البارحة .
حلم سخيف جدا , أحس بالخجل حين يكون الحلم سخيفا الى هذا الحد, ومضحكا ايضا .
كان هناك مؤتمرا للفئران... الغريب أنني أخاف من الفئران جدا , لكنني رأيت جماعة كبيرة من الفئران بأحجام متفاوتة , فئران سمينة ومنتفخة , وأخرى نحيلة . فئران بشوارب رفيعة وطويلة , فئران من اللونين البيض والأسود , رأيتها مجتمعة في قاعة واسعة , كانت ترتدي ثيابا مثل ثياب البشر , وكانت تتكلم ايضا , تتناقش في أمر ما , لحسن الحظ لا أذكره . لكنها فجاة تغادر القاعة الواسعة وتنتشر في الشارع .
رأيت أيضا عمتي تجلس على الأرض في وسط الغرفة عارية , تقهقه بصوت مخيف , الفئران تسير على جسدها , وهي لا تبالي .
شئ مرعب أن أستمر في تذكر أحلامي وتدوينها حتى عندما تغزوها الفئران أيضا .
وضعت ابريق الماءعلى النار , أضفت الى الكوب لازجاجي ظرفا من الشاي حتى سحبته بسرعة قبل أن يصير لونه أحمر داكنا . هاديا تسخر من الشاي الذي أشربه , تصفه بأنه " ماء ساخن" فقط . دخلت الى غرفة الجلوس أمسك الصينية الصغيرة التي تضم المنقوشة وكوب الشاي . لم أكن أسير بسرعة لن قدمية دخلت في طرف السجادة , فسقطت الصينية على الرض وتناثرت بقع الشاي مع الزجاج المكسور والمنقوشة الساخنة .
الشاي الساخن الذي انسكب على الأرض أصاب يدي بحروق طفيفة لكنها مزعجة .
غمرني احساس بالتشاؤم وأنا انسى الرضا وأجمع ماتناثر من قطع الزجاج الصغيرة .
عدت الى المطبخ , احضرت قطعة ثلج وصرت أمررها على ظاهر يدي في المامن التي أصابتاه الحروق . عاودني احساس الجوع فتحت البراد أخذت علبة اللبنة وكيس الخبز , وضعت ملعقتين من اللبنة في نصف رغيف وثلاث حبات من الزيتون , ثم سكبت البيبسي في كوب زجاجي وعدت الى غرفة الجلوس , مشيت بحذر خوفا من أن تتكرر حادثة السقوط . أكلت سندويتش اللبنة ثم تناولت دواء حساسية الصدر .
******************
غادرت البيت عصرا .
ذهبت الى زيارة هند في البيت الذي تسكنه منذ أشهر مع زياد في " شارع حمد " .
عند مرور السيارة من أمام سكن الموتى , تذكرت أن جدتي وأبي دفنا هنا في" مقبرة الشهدا " , في ذات القبر , جثة على هيكل , ارتعاش في قلبي , برودة في أصابعي , أشد على حقيبة يدي , أقرأ "الفاتحة " على روحيهما , وأتذكر أنني لم أجرؤ على الدخول أبدا الى "المقبرة " . لماذا كنت أخاف كل هذا الخوف , وكما لو أن القبر سينفتح ويظهر لي رأس جدتي ثم تندفع يداها لتقبض علي لأكون بجوارها , فيما أبي سيهز رأسه بالموافقة كما يفعل عادة .
نزلت من السيارة قرب تعاونية صبرا .
شارع " تعاونية صبرا " , يبدو لي واجهة محسنة قليلا مقارنة بالمناطق المختفية خلفه , " أرض
جلول " ثم منطقة" صبرا " التي تعتبر أحد الأماكن التي تخزن البؤس في بيروت , انها خليط من أشياء كثيرة ومن عدة جنسيات , البنانية , والفلسطينية , العراقية , السورية , والسودانية وغيرها .
مكان تحدث على أرضه أمور قانونية وغير قانونية , تتم بعشوائية كما هي حال المكان وسكانه المغمورين بالفقر والبطالة والجهل . أناس مشاكلهم منسية تماما وقلما يتم الحديث عنها في العلن , رغم أنها من الممكن أن تنفجر في أية لحظة وتطفو على اسطح مباشرة , مهددة بالخراب . اذكر في برنامج شاهدته على التليفزيون عن بيروت في أوائل القرن الماضي أن هذا المكان كان فيه سكة حديد استحدثها الجيش البريطاني الذي احتل بيروت في الحرب العالمية الثانية عام 1941وكانت سكة حديد تمتد من "تعاونية صبرا " حاليا الى تربة الدعواق فالمطار القديم مرورا بأرض جلول بمحاذاة تربة ضحايا جنود الحلفاء , ثم دخل المكان المسمى الآن بحرج بيروت .
كنت أمشي , أنظر نحو الزحام , سيل من السيارات يهبط من منطقة " الطريق الجديدة" , عندة مفترق "الدنا " , حيث تبدو الأرض مستوية قليلا أو منخفضة نسبيا , ثم ترتفع في الشارع المتجه نحو الجامعة العربية, هنا يبدو جامع " الامام علي ط كما لو أنه مبني عند أقدام هضبة صغيرة .
"شارع حمد " أكثر هدوءا , بعيدا عن صخب الشوارع المجاورة , شارع صغير وجانبي , وكما لو أن سكانه هنا منذ أيام بيروت العتيقة , لقد استمد هذا الشارع اسمه من اسم الشهيد "" عمر حمد " الذي أعدمته تركيا مع شهداء آخرين في لاسادس من آيار عام 1916.
**********************
بدأت علاقة هند مع زياد منذ أيام الدراسة , حدث بينهما تجاذب الأضداد . هو واقعي لا يؤمن سوى بالأشياء الملموسة , تسير حياته وفق قانون واضح , التفوق في الدراسة والعمل بهدف تحقيق التائج في أقصر الأوقات , ورغم أنه يعيش في صخب جيله وحيرته وتشتته بين قناعات متباينة , لكن زياد الذي ظل يتحرك ضمن مربع قناعاته بالبروليتاريا لم ين يترك فرصة من دون الحديث عن شيوعية ماركس ولينين وعن تدهور العالم بعد تصاعد الرأسمالية وتقهقر معسكر اليسار , ان قارئا نهما في الفلسفة وعلم الاجتماع , لذا كان يوجه سخريته اللذعة لكثير منةالأحكام الدينية مصرا على أن هذه الاراء اذا كانت صحيحة أي اذا كانت كلام الله فعلا فان من قام على تفسيرها قد عمد من خلال تلك التفاسير الى استعباد البشرية واخضاعها لسلطة الكنيسة والجامع . لم يكن زياد يشكو من ضائقة مالية , والده أستاذ في الجامعة , وأمه مديرة مدرسة , لكنه أصر على البدء بالعمل منذ سنته الجامعية الثانية , بدأ في تدريس اللغة الانجليزية في مدرسة ابتدائية , وبعد تخرجه انتقل الى تعليم المرحلة الاعدادية . يتقن زياد التخطيط لمستقبله جيدا , يعرف كيف يهندس الوقت بحيث لا يترك أشهر الصيف الثلاثة تمر من دون انجاز واضح مثل الالتحاق بدورات تعلم اللغة الفرنسية , أو المشارة مع مجموعة من الشبان ولشابات في تنظيم دورات مجانية لتعليم الأطفال على الكمبيوتر .
هند التي تؤمن بالقدر كان لها اهتمامات أخرى , هي التي نشأت وحيدة من دون اخوة أو أخوات وبين أبوين مختلفي الديانة , خلال سنوات الجامعة كانت ناشطة في مجال الاهتمام بالبيئة , كنت أرافقها أحيانا في جولات جماعية الى الأحراش والغابات , ثم بعد تخرجها من الجامعة انشغلت في البحث حل عوالم الفلك وعلم الطاقة والظواهر الغريبة , تحاول جاهدة الموازنة بين المخزون الديني لديانتين تعرف القليل عن كل منهما بين اهتماماتها الخاصة في معرفة تأثير حركة الفلك على الناس , وفي التخاطر عن بعد , وفي التأكد من حقيقة التقنص , وبين آراء زياد المادية التي تنفي تماما كل ذلك .
***********************
لم أفكر في علاقتي مع جدتي من قبل , لم أفكر في طبيعة تلك العلاقة , ربما لأنها صلة لا تحتمل التفكير , أو لأن التفكير في جوهرها لن يغير شيئا . انت جدتي امرأة قادرة على الشفقة والقسوة في آن واحد .
عند بداية تفتح أنوثتي كان من الضروري بالنسبة لها أن تقوم باحتياطات تؤمن لها أن لا تفلت زمامي , وأن لا جلب لها أية فضيحة تجر عليها مصائب اجتماعية , لذا كانت تتفانى أمامي في تسخيف فكرة الأنوثة وتجاهلها , لأن أي مسل غير قويم مني سيطعن في تربيها لي , ويش في حرصها علي . لكن رغم ذلك يمكنني القول أنها كانت تحبني نوعا من المحبة الكامنة التي لا تظهرها كي لا يفسدني الدلال , ربما لا ينبغي على لومها ابدا لأنها تعاملت معي وفق المبادئ التي نشأت عليها ولا تعرف غيرها . في الأوقات التي تكون عمتي فيها معنا في البيت , وتكون في تمام وعيها , غالبا ما نشكل أنا وهي وحدة للفرار من قبضة جدتي , كنا نتحايل عليها حتى تنام , ثم نسرع في استدعاء بنات الجيران للسهر معنا في الصالون مع التنبيه عليهن بخفض أصوتهم , وفي أحيان أخرى كنا نوهمها أننا عند احدى الجارات ثم نتسلل خارج المبنى كلية في جولة سريعة الى أماكن مجاورة . لن أقول أن جدتي كانت لا تعرف تماما بتلك الهروبات الصغيرة , لكنها كانت تغض الطرف بذكاء أم محنكة .
كانت أحلى الأوقات معها عندما تكون رائقة , وتكي لي عن أيامها في الضيعة , وعن حب جدي لها حين كان عمرها أربعة عشر عامل , وكيف غارت منها كل البنات لأنها تمكنت من الزواج منه لأنه كان وسيما والابن الأكبر لأحد وجهاءالضيعة . تذكر أيامها معه بكثير من الفخر , تحكي عن الأقمشة والفساتين التي ان يشتريها لها من بيروت , والتي لا تتشابه مع ثياب النساء الخريات في الضيعة , ثم وهي تحكي ينقطع الحديث الجميل , فجأة عند موت جدي وانقلاب الزمن عليها , زما تلا ذل من أحداث قاسية بما فيها الحرب ومرض عمتي .
*************
اليوم هو الأحد .
حين استيقظت صباحا تذكرت أنني حلمت حلما تكررمن قبل . كن أسير في الشارع حافية القدمين , أركض وأركض على السفلت الأسود , الشارع يزداد عرضا , وأنا ألهث من التعب , الشارع غير نظيف أبدا , على جانبيه قمامة وأتربة ووحول تلوثه , أوراق محترقة , علب كرتوية فارغة , أعقاب سجائر مرمية بكثرة تشكل تلة صغيرة , زجاجات مكسورة , علب مثلجات مطعوجة , وفوق ذلك كله كان هناك جثث قطط وكلاب متعفة , أشيح بوجهي عنها كي لا أراها ... في نهاية الشارع تقف عمتي في منتصف الطريق تمارس العادة السرية , هي لاتراني ابدا ...
أنا أراها فقط من بعيد , أحس بالخجل . في الحلم أحس بالخجل وعند الصحو أيضا...
كابوس عمتي والشارع المتسخ تكرر أكثر من ثلاث مرات , وأنا أركض كثيرا من دون هدف محدد لذا لا أتقدم الا قليلا .
لن لماذا أون حافية في الحلم ؟ أكثر ما ان يضايقني أنني أسير حافية .
********************
كبرت أنا و " هاديا " و " زين " و " كامل " و " نجلا " .
" هاديا " كانت في مثل سني , " زين " شقيقها يكبرنا بعامين او ثلاثة , وكذلك " كامل " الذي كان صديق طفولة وصار خطيبي لمدة عام تقريبا . " نجلا " كان تصغرني أنا وهاديا بعدة أشهر .
جميعنا كنا نسكن في مجمع سكني واحد .
هاديا وزين من أقارب جدتي , وكذلك كامل ابن عمهم .
حدثت خطوبتي من" كامل " بسهولة . كل ما في الأمر أن أمه فاتحت " جدتي " صديقتها في الصحيات وجلسات تدخين الأرغيلة , عرضت عليها أن تتم خطوبتنا لأني " عاقلة ومهذبة وبنت ناس أوادم , ومش رح تلاقي أحسن مني لابنها , ولاني ترباية ستي " . ما يرادف عبارة مضمونة السير والسلوك .
قالت جدتي أن الأفضل بالنسبة لوضعي أن أقبل بتلك الزيجة حتى ان كنت لا أحب " كامل " . قالت لي بشكل مباشر وبصوت حنون ومتعاطف , نادرا ماتستخدم تلك النبرة , وكما لو أنها وجدت الضمان التام لمستقبلي .
" ياستي مش يمن بكرة تحبي واحد تاني ما منعرفه , واهله ما يقبلوا فيكي ... رح يقولوا هيدي أمها وبيها مطلقين , ليش تطلقوا الله وأعلم شو في " . سكتت جدتي وتابعت بصوت كسير قائلة : " وأكيد كمان يعرفوا بحكاية عمتك رجاء " .
****************************
الطفولة السعيدة وهم كبير .
وهم نستمر بالتساؤل عنه طوال مراحل ما بعد الطفولة .
في البداية كانت أفكر أن تعاستي الطفولية حدثت بسبب غياب أمي , كنت مقتنعة بهذا , لكن هاديا كانت تؤكد لي أنها هي ايضا ترى طفولتها تعسة رغم وجود أمها وأبيها معهم , تقول لي هاديا , ان أي حرمان هو الذي يسبب التعاسة . حرمان العاطفة , المال , احساس الفقد , الغياب , أشياء كثيرة تتضافرتخلق تعاسة لا نعيها في وقتها بسبب جهلنا , ثم مع مرورالوقت نكتشف الفراغ الذي سببته.
في صغري كنت أتسلق شجرة التوت , عندما نذهب لزيارة أقارب جدتي في الجنوب , " التوتة الحمرا " كانت هدفا دائما لي لتسلقه , كنت أقنع أولاد وبنات أقارب جدتي بأن نقوم بتسلق أغصان التوتة حتى نصل لأعلى غصن . متعة الوصول لأعلى غصن كان بمثابة الطيران الى أعلى , الانعتاق من رؤية الآرض , وكل ما يربطني بها . عندماةكنت في الثانية عشر , سقطت من أعلى التوتة وكسرت يدي , وظلت ملفوفة برباط الجبس ستة أشهر , وفي المدرسة كنت أذهب بيد يسرى مربوطة الى عنقي , رغم تفوقي في دروسي الذي لم يؤخره مرضي , الا أنني كنت أحس بخجل كبير من نفسي , ومن بنطالي الكحلي , وبلوزتي الرمادية , وجاكيتي البرتقالي .
الفتيات تعاطفن معي وساعدنني في دروسي , صرن أكثر ودا معي وألفة , ورغم أن حادثة سقوطي هذه قربتني من بنات الصف الا أنني منعت بتاتا من تسلق أغصان "التوتة " التي دخلت لائحة الممنوعات .
في عمر الرابعة عشر تغير شكلي , زاد وزني كثيرا , أصبح 75 كيلو جراما , بطل يصل الى 160 , كما ظهرت البثور في وجهي , وصارت بشرتي تشبه حبة الفريز محمرة ومليئة ببثور صغيرة ..
في المدرسة أحس بالخجل من الألوان التي أرتديها , ومن ثيابي التي تشتريها جدتي لي من " البالة " , انت تحتفظ بالثياب التي ترسلها أمي لأيام العيد والمناسبات . أحس بالخجل من أحذيتي مازالت لدي عقدة الحذاء حتى الآن . جدتي انت تختار لي أحذية غريبة الشكل , كبيرة مدببة , أقرب الى أحذية الأولاد , يخضع اختيارها لها وفق صلابتها , اذ علي أن أمضي الموسم كله في هذا الحذاء . أنظر الى أحذية زميلاتي التي تميز بالجمال والأناقة , هل ينبغي اذا كان الحذاء جيدا أن يكون قبيحا . لكنني لم أكن أستطيع الاعتراض .
كان من المحظورات ارتداء الثياب الجديدة في أيام الدراسة , تقول لي : " انتي رايحة تتعايقي بالتياب أو تتعلمي " . لا يمكني نسيان أنها يوم صنعت لي ثقبا في أذني لأضع الحلق استعانت بجارتنا " أم فؤاد " لتصنع لي ثقبا بالابرة , وتضع في أذي خيطا مدة أسبوع .
تغير هذا الوضع عندما صارت أمي ترافقني في جولات شراء وتشتري لي ثيابا جديدة , لم تكن تسأل جدي عما تفعله بالمبلغ الشهري الذي ترسله لها ان كانت لاتنفقه علي اذن ... كان هناك اتفاق ضمني بينهما على عدم السؤال . منعتني أمي من لبس البلوزة الجزرية اللون , والبنطلون الأسود القيبح , والحذاء ذو الكعب المدبب , قال لي يومها انني أبدو مثل " عاملات النظافة في المستشفيات ". أجرت أمي تعديلات جوهرية على مظهري , وتسريحة شعري , اصطحبتني في جولا شراء الى أماكن لم أعرف أنها موجودة في بيروت , معها اكتفت مناطق أخرى خارج الضاحية الجنوبية , رأيت وجهاآخر للمدينة لم أجرؤ يوما على اكتشافه رغم معرفتي بوجوده . معها عرفت محلات ( آ . بي . سي ) في الأشرفية , ومحلات الثياب في شارع مار الياس , وشارع الحمرا .
لكن رغم ما تفعله أمي معي ظلت مشاعري نحوها متناقضة , ومبلبلة , طريقة العطاء التي اختارتها لم تكن كافية لتقليص المسافات بيننا . هناك فجوة لا تردم . كنت أخجل من نزع ثيابي أمامها , أو من الحديث في أي موضوع حساس , لو دث ذل يتابني احساس الوجود في غابة شائكة , لما توغلت في دخولي لها , لا يمكنني الخروج لذا كنت أتراجع بعد عدة أمتار .
***********************
حين صار عمري سبعة عشر عاما , بدأت بخسارة الوزن , كنت أعرض جسدي ضربات قاسية من الحرمان , وأبتلع سرا على الريق حبوب تقطع الشهية وتقضي على رغبتي في أكل الشوكولا والشيبس والكرواسان . كنت قد كبرت وصار بامكاني الاحتجاج على قائمة الممنوعات التي تضعها جدتي . لكنني بقيت أره أيام العيد , أكره المناسبات كلها التي يجتمع فيها الناس , أيام العيد تسبب لي احساسا بالقهر , كل ما كان يمكنني نسيانه خلال العام , يلح علي عدما يزورنا الناس أيام العيد ويظهرون شفقتهم علي , ممتدحين جدتي وسن تربيتها لي . احداهن تقول لها :
" والله ياحجة انتي شفتي أيام أمر من زوم الزيتون , حرب وشحار وتعتير , وتربايتك للبنت الليأمها ر كتها وما سألت " .
وكانت جدتي تهز رأسها بأسف , وتكسو ملامحها حكمة القديسين قبل أن تنطق كلماتها الحكيمة "ايه في الله ... مابيضيع عنده شي " .
ظللت أكره ليلة رأس السنة , التي يحتفل فيها الناس ببدء عام جديد , لكنني نت أنام باكرا قبل الساعة 12 لأن جدتي تطفئ التليفزيون قائلة : " قومي شوفي دروسك , أو نامي شوي , أحسن من أكل هاالهوا الفاضي " .
لكن دائما كان في داخلي حسرة على ليلة الميلاد لأنها ظلت مجهولة بالنسبة لي لا أعرف طقوسها , هذه الليلة التي يتم الاستعداد لها منذ مطلع " ديسمبر " حين تتزين المحلات بشجر الميلاد , ويحضر اللون الأحمر في أزياء بابا نويل وكيسه وهداياه , ونبتة " قلب العاشق " الحمراء الصغيرة , تلك النبتة التي أهديتها محمدو , وظلت تزين شقته لأكثر من شهرين .
*************************
الآن أدرك أنه ليس من السهل على طفلة أن تنسى زيارات " مأوى العجزة " . لكن رغم ذلك لم أحس بالحقد على أحد . لم أكره أمي لأنها تركتني وعمري خمسة أعوام لتربيني جدي , ولم أكره أبي الذي يشرب مساء كل يوم ثلاثة كؤوس من العرق الوطني . أبي الذي أمضي حياته كلها في ثلاثة أمور : " عمله في مكتب البريد , والصمت , وشرب العر ق " .
ان يعود من عمله في الثالثة ظهرا , يدخل الى حجرته يتناول الغداء فيها , ثم ينام القيلولة , ستيقظ قبيل المغرب بقليل , ينزل الى المقهى يلعب الطاولة والورق , يعود مساء يتناول عشاؤه ويشرب كؤوسه الثلاثة . لم يكن يسكر , كل ما كان يفعله أن يخرج عن صمته , العرق يساعده على الكلام وفي كثير من المرات كان يحكي قصته مع أمي , وكيف تركته .
كان يشرب العرق ويشكو لله هجر أمي قائلا :
" منها لربنا اللي كانت السبب ... ضلت تلعب بعقله حتى خلتها تترك البيت وتتركك يا ندى ...
كنا عايشين سوا مبسوطين ... وكان زمانها هلق معك عم تربيكي ".
عندما كبرت كنت أفكر الى هذا الحد أحبها ؟
وبهدف دفعها للاتصال به كان يمنعني آحيانا من الذهاب لرؤيتها حين تأتي من السفر , كان يأمل أن تتصل به وتستعطفه ليسمح لها برؤيتي لن كل ذلك لم يحدث ابدا لأن أمي تكتفي بالاتصال بجدتي وتسوية وقت اللقاء بي ... خلال مرض أبي حين أصاب ظهره " ديسك " كان راتبه الشهري يذهب لنفقات العلاج , وكان يعيش من المبلغ الذي ترسله أمي الى جدتي , لذا لم يكن بمقدور جدتي أن تسئ معاملتها وتخضع لنزوات أبي حين يحرضها على منعها من رؤيتي , كانت تصرخ في وجهه قائلة :
" والله أنت واحد مفتري , لو ما المصاري اللي عم تبعتهن ماجدة من وين كنا رح نعيش لم أت مرضت , ما شفت كيف خيك ما سأل فينا , وأختك مرمية بالمستشفى بدها هالقد مصاري للعلاج " .
في البداية لم أكن أعرف من يقصد أبي حين يقول " ضلت تلعب بعقلها " اتضح لي فيما بعد أن المعنية هي خالتي " وفاء " , خالتي التي لم أتعرف اليها الا حين صارت أمي تأتي من السفر وتصاحبني لزيارة خالاتي وخالي الذين يسكنون في البقاع متوزعين مابين " بعلبك " و " أبلح " .
كنت أتخيل خالتي " وفاء " من كلام أبي عنها امرأة شريرة حقودة لكنني حين التقيت بها وجدت أمامي امرأة مقهورة حزينة تميل الى الصمت , مازالت موجوعة من حادثة قتل زوجها الغامضة والتي لم تعرف من اركبها .
**************************
" الشغف ان لم يكن مدعوما بقوة جارفة لا يمكنه مواجهة الخوف وقتله " .
كما لو أنني كنت في كهف تظلله البرودة .. الرطوبة والعتمة .
مضى علي أيام عدة منذ غادرت البيت آخر مرة .
حين خرجت الى الشارع غمرني ضوء كثيف ... لم أستطع رفع وجهي نحو الشمس , عيناي تدمعان أرغب بالانسحاب والعودة الى كهفي , كلما أحسست بالوحدة لما مضيت أكثر نحو عزلتي .
لماذا كلما واجهت الحياة أجد هذا الكم من العنف والخوف ؟
هل صحيح أن " الارهاب " هو زرع الخوف في نفوس الناس البسيطة ؟
لولا خوف نجلا من مواجهة " عبدو " لما قتلها ... لولا خوفها من تحدي المجتمع والجهر بأنها تحب رجلا آخر ماكانت ماتت ...
هل أنا آيضا من الناس الخائفين ... القابعين في كهوفهم ... أعيش خائفة من الأشباح التي ستأتي الي ذات يوم وتدفعني للصراخ كالمجانين , فيقرر عمي أن يضعني في المستشفى كما حصل مع عمتي ... سترسل لي أمي المال , وستأتي لزيارتي خلال وجودها في أشهر الصيف , وربما لن تأتي لأن أعصابها الرهيفة لن تحتمل رؤية مريضات المستشفى , كما لن تحتمل رؤية المسنين الذين يشغلون الطابق الأول , ويخرجون للمشي في الحديقة الخلفية أو الجلوس مع أولادهم في كافيتيريا المستشفى .
المعادلة التي تحكم الحياة والموت صعبة وعسيرة التفسير . يفرح الأهل بقدوم مولود لهم , تغمرهم سعادة بالغة وهم يرونه يكبر أمام أعينهم . فيما بعد , بعد سنوات كثيرة سينتظر هذا الابن موتهم ليخففوا عنه مسئولية كبرهما في السن واحتياجهم له . معادلة غريبة جدا لكنها مستمرة استمرار الحياة وان ان البعض لايواجه نفسه بها الا أنها قابعة في عمق ذاته .
***********************
أصعد باتجاه الدرج , أعبر الطابق الأول , ثم الثاني .
أقف أمام الباب الكبير , الباب الذي يصيبني ماوراءه بالجزع . أكبس بسبابتي على الجرس , أضم يدي وأضرب آيضا على الباب ضربتين , وجهي شديد الصفرة لا أحتاج مرآة لتؤكد لي ذلك , أعرف أن الدماء كلها تتحرك بينقلبي ويدي فقط , فيما سائر أعضائي جافة تماما .
ينفتح الباب . اناه ذات الممرضة المرعبة التي رأيتها آخر مرة , حين أتيت برفقة حسان ابن عمي . أرى وجهها شديد السواد , أعرف أنها ستقول لي لاتوجد زيارات اليوم وان علي تر الأغراض عندها والمال في خزنة المستشفي لذا أبادرها بأن أمد يدي بالكيس في تهيؤ تام لأنزل الدرج بتعدة بسرعة , لكنها تمسكني من يدي , تشد على اليد التي تمسك الكيس وتضع يدها الأخرى على تفي تسحبني الى الداخل من دون كلام نقف أنا وهي في الصالو الواسع الذي تجلس فيه المريضات ليشاهدن التليفزيون مساء . المان هادئ تماما , خالي سوى من بعض الأصوات التي ترتفع من الحجرات . ماهذا الهدوء المرعب , من أين انبعثت الأصوات التي كنت أسمعها وأنا في الأسفل اذن ؟ ثم أين هن المريضات اللواتي ن يلوحن لي من نافذة الشباك التي تشبه نافذة السجن , أين هي عمتي أيضا ؟
تشير علي الممرضة للسير ورائها في الممر الطويل , يبدو لي أن لا نهاية له .
في زيها الأبيض المخيف تسير أمامي , قدميها تبدوان شديدتي السواد عند نهاية حافة المريول . صندلها الأبيض أيضا ذو الكعب الضخم يبدو لي بشعا أيضا .
تتركني وجها لوجه أمام باب خشبي فيه مربعات من الزجاج السميك الذي يبدو ما خلفه مجرد أشباح متحرة , على الحائط قرب الباب يافطة صغيرة مكتوب عليها " رئيسة قسم التمريض " . تتجاوزني الممرضة , تفتح الباب وتدخل بسرعة , تتركي خارجا , تضم أصابعها الخمسة في شل هرم فتبدو لي رؤؤس أصابعها مثل مخالب حيوان مفترس وهي تحركها لتشير لي بالانتظار .
دقيقة من الوقت مرت ببطء كنت أحس بأجزاء الثانية وهي حدود زمني الثقيل .
تخرج الممرضة , تعبر من أمامي وهي تمنحني ابتتسامة تعاطف صفراء ثم تبتعد عبر الممر الطويل .
وقفت وجها لوجه أمام رئيسة الممرضات التي تجلس على كرسيها الواسع , كانت سمينة وقصيرة , مربعة الجسد , وجهها كبير أيضا , عظمتا خدها بارزتان رغم كتل اللحم التي تغطيهما ,
عيناهما تضيقان تحت جفنيهما السميكتين , وقفت فبان لي كتفها وصدرها كتلة واحدة .
ملامحها كلها جامدة من الصعب التنبه الى ماتود قوله .
ثم ...
ماذا كانت تقول ... ؟
لا أذكر تماما .
عبارات ... عبارات .. لا هوية لها .
عبارات تفيد حقيقة واحدة .... " ماتت " ... عمتي ماتت .
كررت الجملة ... وأيضا كررت عبارات لا تجدي , السئلة التي ترافق حدث الموت , كيف ومتى ؟ أين ؟ ولم ؟
" اتصلنا بعمك , وخبرناه علشان تشوفوا موضوع الدفن كيف بده يتم , نحنا مفكرين انك عارفة, وجاية تردي علينا خبر , هي وفت اليوم عند الفجر ... البقاء له .. ربنا ريحها وريحكن .. ربنا خفف عنكن وعنها " .
لم تكن تتحدث بتعاطف معي , كانت من ينقل خبرا مريحا . كانت تراني لحظتها مثل الأبناء الذين يضعون أهاليهم في دار المسنين وحين يعرفون بموتهم , يعتبرون أن الموت جاء رحمة لكليهما , فيفرون فرحا سريا يخجلون من اظهاره .
يدي متيبسة على الكيس الملئ بالمشتريات . تتراخى يدي عنه , يسقط على الأرض , أسمع صوت ارتطام عنيف , يتزامن مع دوي انفجار بعيد . يبدو على الممرضة التململ وأنا أحملق بها وبالمكتب الذي تجلس عليه .
عمتي ماتت اذن ... علي مغادرة هذا المكان بسرعة ... علي مغادرته الى الأبد .
أقف ... أتحرك خطوين نحو الباب برودة عنيفة , ثلج يملأ أوردتي وأعضائي كلها .
صوت الممرضة يأتيني من الخلف قائلة " لوين ... لازم تستلمي غراض عمتك , وتضلي هون ليجي عمك ويتمم اجراءات الدفن " .
ينفتح باب الغرفة بسرعة , أجد الممرضة الأولى أمامي , التفت برأسي الى الوراء نحو رئيسة الممرضات تشير اليها باصطحابي , أمشي خلفها , خطواتي متكسرة , قدماي تتضخمان , الآن لا يوجد في كل جسدي سوى قدمين تسيران في ممر طويل .
نصل الى الصالون الذي تجلس فيه الممرضات , تشير علي الممرضة بالجلوس , أجلس في المقعد الذي رأيت عمتي تجلس فيه . تنظر الى الممرضة فلا أرى سوى عينيها اللتين تشبهان عيون مصاصي الدماء , تندفع من فمها عبارة مفادها أن علي الانتظار ريثما تعود . تبتعد هي , بدأ المريضات بالصحو , يدخلن الى الصالون الواسع , أحس بهلع كبير , انكمش على ذاتي , أفكر بالهرب عبر الباب الذي دخلت منه , أحرك قبضته , الباب مقفل , قهقهة كبيرة ترتفع من مكان ما , أعود لأجلس على المقعد الشاغر الذي تركته , مكان عمتي . انتظر قدوم الممرضة ... استند الى ذراع المقعد , أشد كلتا يدي على معدتي , اعتصار حاد يمزقني , ورغبة عالية في الصراخ ... صراخ يتحول الى زعيق , أقع على الأرض .
آخر ما أذكره صوت قذائف يتتالى انفجارها ... رائحة البارود ... دخان أرى أخيلته ترتفع من مكان ما . روح عمتي تتحركفي الغرفة , أشباحها حولي تماما, بينها شبح كبير جدا , هائل الحجم , رمادي اللون , يقترب مني مقهقها , أسمع ذات الصوت الذي كان يصدر من عمتي لحظة مرضها , دوار عنيف في رأسي ...
صوت القذائف يتتالى ... الممرضة البنية اللون تعود الى الغرفة معها ممرضة أخرى , يمسكاني من كتفي , يدفعاني للوقوف . للسير الى الداخل , العودة الى الممر , الى ظلاله الرمادية .
أسير معهما ببطء .
أصوات القذائف تتسارع أكثر .
قلبي ينبض وينبسط في نبض سريع , جسدي يصير مجرد قلب الآن , ووجه فيه حدقتان متسعتان بهلع , قدماي تتضاءلان , تميدان بي , غصة عند حلقي , قيء يندفع من معدتي الفارغة , اعصار يدور في أمعائي و... و... و... والحرب ....
الى متى تستمر الحرب ؟
وأنا ... وأنا ... ماذا أفعل هنا ؟
النهاية
***********************
صدر أيضا للكاتبة لنا عبد الرحمن :
* شاطئ آخر " مقالات في القصة والرواية "
* أوهام شرقية " مجموعة قصصية " .
* الموتى لايكذبون " مجموعة قصصية " .
* حدائق السراب " رواية " .
********
أكثر ما كان يخيفني، أن أصير مثلها.
أن تكون نهايتي مثل نهايتها.
كوابيسي عنها لا تنتهي، ثم الأشباح… الأشباح التي تأتي ليلا لتهز سريري وتمضي، تتركني أحدق في فراغ غرفة ملبدة بالضباب ولون رمادي كثيف يشبه البخار المتصاعد من قدر هائل الحجم، وخيوط لا مرئية تتمازج ألوانها بين البترولي،الأسود، والكحلي القاتم، ألوان تشعرني بالجفاف الشديد في حلقي، كما لو أنها وجدت في هذا الكون لإفزاعي فقط.
استيقظ في الليل مرعوبة بسبب كابوس يتكرر.أشاهد نفسي نزيلة مستشفى المجانين، “دار العجزة” أو “المأوى”، أكثر الأسماء التي تسبب لي الهلع.
دراستي “علم النفس” لم تحررني من هذه “الفوبيا” المرضية، ظننت أني سأتخلص من كوابيسي، ومن ذكرياتي، سيصير ترددي على “المأوى” أمراً عادياً، أقوم به كلما طلب مني القيام ببحث ما، لكن الأمور لم تسر على هذا الشكل، وظللت أصاب بالرعب كلما صعدت إلى السيارة وقلت للسائق: “المدينة الرياضية، نزلة مستشفى العجزة”.
منذ عامين صرت أذهب لزيارتها وحدي.لم يبق سوى أنا وهي، تدريجيا ضاقت الدائرة عليها بعد موتهما.
جدتي كانت تقول أنني أشبهها، أحدق في وجهها بخوف وصمت كلما حكت عن جمالها حين كانت صبية، تنظر في وجهي قائلة:”ايه شو بك، عمتك هيدي كانت قمر بصباها، كانت بتشبه مريم فخر الدين، أنت طالعة بتشبهيها ، مش المتل بيقول: “خذوا البنات من صدور العمات”.
بماذا أشبهها أيضا؟، هل ورثت عنها ذات الشيطان؟ ،الشيطان الذي يلهب لي جسدي كلما أيقظني ليلاً.أبلع ريقي وأصاب أكثر بالخوف، هل ستكون نهايتي مثلها، “مجنونة” لا يزورها أحد؟هي كانت أجمل مني بكثير، أنفي الطويل الذي ورثته عن أمي، وبشرتي المائلة إلى الأصفر لا يقارنان بلونها القرنفلي، بعينيها العسليتين ، وملامحها الدقيقة.
لو أنني تزوجت، لو لم انجرف وراء شغف علاقتي مع “محمدو” وأفسخ خطوبتي من كامل، ربما كنت الآن أكثر هدوءاً وأقل وحدة.هي أيضا لم تكن مجنونة منذ البداية، ولم تكن وحيدة، كل الأشياء تصاعدت رويداً رويداً حتى وصلت لهذه النتيجة.
لا أعرف كيف بدأت تمرض، وكيف جنت. لا أحد من العائلة أو الأقارب يتفق على بداية مرضها، وكيف صارت مجنونة.حادثة مرضها يتكتم عليها الجميع، وكنت أسمعها بصيغ مختلفة من كل شخص في العائلة.
أبعد ما أذكره أنني منذ بداية تشكل وعيي الأول وأنا أذهب لزيارتها مع جدتي في “مأوى العجزة”، كلما عاودتها نوبة عصبية ونقلتها جدتي برفقة أبي إلى المستشفى لتظل فيه شهراً أو أكثر قبل عودتها إلى البيت.
“مأوى العجزة” الذي يتكون من عدة طوابق، وينقسم ما بين مصح للأمراض العقلية للنساء والرجال، وبين نزل لإيواء المسنين. إنه المكان الذي وضعت قدميّ الصغيرتين فيه أول مرة وأنا طفلة في الخامسة.
ما أن نصعد أنا وجدتي إلى الطابق الثاني المخصص للنساء اللواتي يعانين من مرض عقلي أو خلل نفسي ، حتى تبدأ رفيقات عمتي المريضات بمحاولة مداعبتي، إحداهن كان اسمها “أسماء”، كانت تبكي كلما رأتني، تحكي عمتي لجدتي حكايتها على مسمعي، كيف حرمها زوجها من أبنائها الثلاثة ووضعها في المستشفى رغم أنها طبيعية تماماً، لكن أسماء لم تكن تبدو عادية أبدا. أما “سعاد” فقد توقف نموها الذهني عند التاسعة من عمرها. الأجمل بينهن “هلا”، كانت تعطيني الشوكولا والبنبون، عمتي تقول بأنها “تقع بالنقطة” حينها لم أكن أفهم مجاز العبارة بأنها تقصد نوعاً من الصرع ينتابها فجأة بلا أي مقدمات، لكن “رويدا” التي تنحدر من عائلة كبيرة في “بعلبك” كانت مدمنة على “الكوكايين”. حكت عمتي لي بأنها بدأت بتعاطي الحشيشة منذ السادسة عشر من عمرها، وبعد زواجها من ابن عمها الذي يتاجر بالحشيش أيضاً أدمنت على الكوكايين بعدما صار يعقد صفقات مع تجار يقومون بتخزين الكوكايين عنده قبل نقله براً إلى بلدان عربية مجاورة، خاصة أيام الحرب عندما كان لبنان من الدول المصدرة للمخدرات.
هؤلاء كن رفيقات عمتي في مرضها، رسخن في ذاكرتي، رغم عبوري من الطفولة الى المراهقة والشباب، إلا أنني مازالت أذكر ملامح وجوههن المريضة وأجسادهن المهدودة من جلسات الكهرباء.
*****************************************
ارتديت بنطلون الرياضة القطني الأزرق , وتي –شيرت أبيض , ونزلت الدرج الى أسفل المبنى , دخلت الى فرن "عبدو " , أوصيت على منقوشة جبنة , ثم اتجهت نحو المكتبة القريبة , اشتريت الجريدة , عبرت الشارع كي أعود الى الفرن , سيارة حمراء تعبر من جانبي بسرعة البرق , تترك خلفها غمامة عالية من الغبار أشبه بزوبعة مفاجئة , عامل الفرن لم ينته بعد , أقف بانتظار وجبتي المرتقبة , الوهج المنبعث منت النار يتسرب الي ,’ أحس ببداية نوبة حساسية الصدر , سأصعد الى البيت حالا وآخذ الدواء , وأنا أنظر للنيران المشتعلة في الفرن تذكرت حلم ليلة البارحة .
حلم سخيف جدا , أحس بالخجل حين يكون الحلم سخيفا الى هذا الحد, ومضحكا ايضا .
كان هناك مؤتمرا للفئران... الغريب أنني أخاف من الفئران جدا , لكنني رأيت جماعة كبيرة من الفئران بأحجام متفاوتة , فئران سمينة ومنتفخة , وأخرى نحيلة . فئران بشوارب رفيعة وطويلة , فئران من اللونين البيض والأسود , رأيتها مجتمعة في قاعة واسعة , كانت ترتدي ثيابا مثل ثياب البشر , وكانت تتكلم ايضا , تتناقش في أمر ما , لحسن الحظ لا أذكره . لكنها فجاة تغادر القاعة الواسعة وتنتشر في الشارع .
رأيت أيضا عمتي تجلس على الأرض في وسط الغرفة عارية , تقهقه بصوت مخيف , الفئران تسير على جسدها , وهي لا تبالي .
شئ مرعب أن أستمر في تذكر أحلامي وتدوينها حتى عندما تغزوها الفئران أيضا .
وضعت ابريق الماءعلى النار , أضفت الى الكوب لازجاجي ظرفا من الشاي حتى سحبته بسرعة قبل أن يصير لونه أحمر داكنا . هاديا تسخر من الشاي الذي أشربه , تصفه بأنه " ماء ساخن" فقط . دخلت الى غرفة الجلوس أمسك الصينية الصغيرة التي تضم المنقوشة وكوب الشاي . لم أكن أسير بسرعة لن قدمية دخلت في طرف السجادة , فسقطت الصينية على الرض وتناثرت بقع الشاي مع الزجاج المكسور والمنقوشة الساخنة .
الشاي الساخن الذي انسكب على الأرض أصاب يدي بحروق طفيفة لكنها مزعجة .
غمرني احساس بالتشاؤم وأنا انسى الرضا وأجمع ماتناثر من قطع الزجاج الصغيرة .
عدت الى المطبخ , احضرت قطعة ثلج وصرت أمررها على ظاهر يدي في المامن التي أصابتاه الحروق . عاودني احساس الجوع فتحت البراد أخذت علبة اللبنة وكيس الخبز , وضعت ملعقتين من اللبنة في نصف رغيف وثلاث حبات من الزيتون , ثم سكبت البيبسي في كوب زجاجي وعدت الى غرفة الجلوس , مشيت بحذر خوفا من أن تتكرر حادثة السقوط . أكلت سندويتش اللبنة ثم تناولت دواء حساسية الصدر .
******************
غادرت البيت عصرا .
ذهبت الى زيارة هند في البيت الذي تسكنه منذ أشهر مع زياد في " شارع حمد " .
عند مرور السيارة من أمام سكن الموتى , تذكرت أن جدتي وأبي دفنا هنا في" مقبرة الشهدا " , في ذات القبر , جثة على هيكل , ارتعاش في قلبي , برودة في أصابعي , أشد على حقيبة يدي , أقرأ "الفاتحة " على روحيهما , وأتذكر أنني لم أجرؤ على الدخول أبدا الى "المقبرة " . لماذا كنت أخاف كل هذا الخوف , وكما لو أن القبر سينفتح ويظهر لي رأس جدتي ثم تندفع يداها لتقبض علي لأكون بجوارها , فيما أبي سيهز رأسه بالموافقة كما يفعل عادة .
نزلت من السيارة قرب تعاونية صبرا .
شارع " تعاونية صبرا " , يبدو لي واجهة محسنة قليلا مقارنة بالمناطق المختفية خلفه , " أرض
جلول " ثم منطقة" صبرا " التي تعتبر أحد الأماكن التي تخزن البؤس في بيروت , انها خليط من أشياء كثيرة ومن عدة جنسيات , البنانية , والفلسطينية , العراقية , السورية , والسودانية وغيرها .
مكان تحدث على أرضه أمور قانونية وغير قانونية , تتم بعشوائية كما هي حال المكان وسكانه المغمورين بالفقر والبطالة والجهل . أناس مشاكلهم منسية تماما وقلما يتم الحديث عنها في العلن , رغم أنها من الممكن أن تنفجر في أية لحظة وتطفو على اسطح مباشرة , مهددة بالخراب . اذكر في برنامج شاهدته على التليفزيون عن بيروت في أوائل القرن الماضي أن هذا المكان كان فيه سكة حديد استحدثها الجيش البريطاني الذي احتل بيروت في الحرب العالمية الثانية عام 1941وكانت سكة حديد تمتد من "تعاونية صبرا " حاليا الى تربة الدعواق فالمطار القديم مرورا بأرض جلول بمحاذاة تربة ضحايا جنود الحلفاء , ثم دخل المكان المسمى الآن بحرج بيروت .
كنت أمشي , أنظر نحو الزحام , سيل من السيارات يهبط من منطقة " الطريق الجديدة" , عندة مفترق "الدنا " , حيث تبدو الأرض مستوية قليلا أو منخفضة نسبيا , ثم ترتفع في الشارع المتجه نحو الجامعة العربية, هنا يبدو جامع " الامام علي ط كما لو أنه مبني عند أقدام هضبة صغيرة .
"شارع حمد " أكثر هدوءا , بعيدا عن صخب الشوارع المجاورة , شارع صغير وجانبي , وكما لو أن سكانه هنا منذ أيام بيروت العتيقة , لقد استمد هذا الشارع اسمه من اسم الشهيد "" عمر حمد " الذي أعدمته تركيا مع شهداء آخرين في لاسادس من آيار عام 1916.
**********************
بدأت علاقة هند مع زياد منذ أيام الدراسة , حدث بينهما تجاذب الأضداد . هو واقعي لا يؤمن سوى بالأشياء الملموسة , تسير حياته وفق قانون واضح , التفوق في الدراسة والعمل بهدف تحقيق التائج في أقصر الأوقات , ورغم أنه يعيش في صخب جيله وحيرته وتشتته بين قناعات متباينة , لكن زياد الذي ظل يتحرك ضمن مربع قناعاته بالبروليتاريا لم ين يترك فرصة من دون الحديث عن شيوعية ماركس ولينين وعن تدهور العالم بعد تصاعد الرأسمالية وتقهقر معسكر اليسار , ان قارئا نهما في الفلسفة وعلم الاجتماع , لذا كان يوجه سخريته اللذعة لكثير منةالأحكام الدينية مصرا على أن هذه الاراء اذا كانت صحيحة أي اذا كانت كلام الله فعلا فان من قام على تفسيرها قد عمد من خلال تلك التفاسير الى استعباد البشرية واخضاعها لسلطة الكنيسة والجامع . لم يكن زياد يشكو من ضائقة مالية , والده أستاذ في الجامعة , وأمه مديرة مدرسة , لكنه أصر على البدء بالعمل منذ سنته الجامعية الثانية , بدأ في تدريس اللغة الانجليزية في مدرسة ابتدائية , وبعد تخرجه انتقل الى تعليم المرحلة الاعدادية . يتقن زياد التخطيط لمستقبله جيدا , يعرف كيف يهندس الوقت بحيث لا يترك أشهر الصيف الثلاثة تمر من دون انجاز واضح مثل الالتحاق بدورات تعلم اللغة الفرنسية , أو المشارة مع مجموعة من الشبان ولشابات في تنظيم دورات مجانية لتعليم الأطفال على الكمبيوتر .
هند التي تؤمن بالقدر كان لها اهتمامات أخرى , هي التي نشأت وحيدة من دون اخوة أو أخوات وبين أبوين مختلفي الديانة , خلال سنوات الجامعة كانت ناشطة في مجال الاهتمام بالبيئة , كنت أرافقها أحيانا في جولات جماعية الى الأحراش والغابات , ثم بعد تخرجها من الجامعة انشغلت في البحث حل عوالم الفلك وعلم الطاقة والظواهر الغريبة , تحاول جاهدة الموازنة بين المخزون الديني لديانتين تعرف القليل عن كل منهما بين اهتماماتها الخاصة في معرفة تأثير حركة الفلك على الناس , وفي التخاطر عن بعد , وفي التأكد من حقيقة التقنص , وبين آراء زياد المادية التي تنفي تماما كل ذلك .
***********************
لم أفكر في علاقتي مع جدتي من قبل , لم أفكر في طبيعة تلك العلاقة , ربما لأنها صلة لا تحتمل التفكير , أو لأن التفكير في جوهرها لن يغير شيئا . انت جدتي امرأة قادرة على الشفقة والقسوة في آن واحد .
عند بداية تفتح أنوثتي كان من الضروري بالنسبة لها أن تقوم باحتياطات تؤمن لها أن لا تفلت زمامي , وأن لا جلب لها أية فضيحة تجر عليها مصائب اجتماعية , لذا كانت تتفانى أمامي في تسخيف فكرة الأنوثة وتجاهلها , لأن أي مسل غير قويم مني سيطعن في تربيها لي , ويش في حرصها علي . لكن رغم ذلك يمكنني القول أنها كانت تحبني نوعا من المحبة الكامنة التي لا تظهرها كي لا يفسدني الدلال , ربما لا ينبغي على لومها ابدا لأنها تعاملت معي وفق المبادئ التي نشأت عليها ولا تعرف غيرها . في الأوقات التي تكون عمتي فيها معنا في البيت , وتكون في تمام وعيها , غالبا ما نشكل أنا وهي وحدة للفرار من قبضة جدتي , كنا نتحايل عليها حتى تنام , ثم نسرع في استدعاء بنات الجيران للسهر معنا في الصالون مع التنبيه عليهن بخفض أصوتهم , وفي أحيان أخرى كنا نوهمها أننا عند احدى الجارات ثم نتسلل خارج المبنى كلية في جولة سريعة الى أماكن مجاورة . لن أقول أن جدتي كانت لا تعرف تماما بتلك الهروبات الصغيرة , لكنها كانت تغض الطرف بذكاء أم محنكة .
كانت أحلى الأوقات معها عندما تكون رائقة , وتكي لي عن أيامها في الضيعة , وعن حب جدي لها حين كان عمرها أربعة عشر عامل , وكيف غارت منها كل البنات لأنها تمكنت من الزواج منه لأنه كان وسيما والابن الأكبر لأحد وجهاءالضيعة . تذكر أيامها معه بكثير من الفخر , تحكي عن الأقمشة والفساتين التي ان يشتريها لها من بيروت , والتي لا تتشابه مع ثياب النساء الخريات في الضيعة , ثم وهي تحكي ينقطع الحديث الجميل , فجأة عند موت جدي وانقلاب الزمن عليها , زما تلا ذل من أحداث قاسية بما فيها الحرب ومرض عمتي .
*************
اليوم هو الأحد .
حين استيقظت صباحا تذكرت أنني حلمت حلما تكررمن قبل . كن أسير في الشارع حافية القدمين , أركض وأركض على السفلت الأسود , الشارع يزداد عرضا , وأنا ألهث من التعب , الشارع غير نظيف أبدا , على جانبيه قمامة وأتربة ووحول تلوثه , أوراق محترقة , علب كرتوية فارغة , أعقاب سجائر مرمية بكثرة تشكل تلة صغيرة , زجاجات مكسورة , علب مثلجات مطعوجة , وفوق ذلك كله كان هناك جثث قطط وكلاب متعفة , أشيح بوجهي عنها كي لا أراها ... في نهاية الشارع تقف عمتي في منتصف الطريق تمارس العادة السرية , هي لاتراني ابدا ...
أنا أراها فقط من بعيد , أحس بالخجل . في الحلم أحس بالخجل وعند الصحو أيضا...
كابوس عمتي والشارع المتسخ تكرر أكثر من ثلاث مرات , وأنا أركض كثيرا من دون هدف محدد لذا لا أتقدم الا قليلا .
لن لماذا أون حافية في الحلم ؟ أكثر ما ان يضايقني أنني أسير حافية .
********************
كبرت أنا و " هاديا " و " زين " و " كامل " و " نجلا " .
" هاديا " كانت في مثل سني , " زين " شقيقها يكبرنا بعامين او ثلاثة , وكذلك " كامل " الذي كان صديق طفولة وصار خطيبي لمدة عام تقريبا . " نجلا " كان تصغرني أنا وهاديا بعدة أشهر .
جميعنا كنا نسكن في مجمع سكني واحد .
هاديا وزين من أقارب جدتي , وكذلك كامل ابن عمهم .
حدثت خطوبتي من" كامل " بسهولة . كل ما في الأمر أن أمه فاتحت " جدتي " صديقتها في الصحيات وجلسات تدخين الأرغيلة , عرضت عليها أن تتم خطوبتنا لأني " عاقلة ومهذبة وبنت ناس أوادم , ومش رح تلاقي أحسن مني لابنها , ولاني ترباية ستي " . ما يرادف عبارة مضمونة السير والسلوك .
قالت جدتي أن الأفضل بالنسبة لوضعي أن أقبل بتلك الزيجة حتى ان كنت لا أحب " كامل " . قالت لي بشكل مباشر وبصوت حنون ومتعاطف , نادرا ماتستخدم تلك النبرة , وكما لو أنها وجدت الضمان التام لمستقبلي .
" ياستي مش يمن بكرة تحبي واحد تاني ما منعرفه , واهله ما يقبلوا فيكي ... رح يقولوا هيدي أمها وبيها مطلقين , ليش تطلقوا الله وأعلم شو في " . سكتت جدتي وتابعت بصوت كسير قائلة : " وأكيد كمان يعرفوا بحكاية عمتك رجاء " .
****************************
الطفولة السعيدة وهم كبير .
وهم نستمر بالتساؤل عنه طوال مراحل ما بعد الطفولة .
في البداية كانت أفكر أن تعاستي الطفولية حدثت بسبب غياب أمي , كنت مقتنعة بهذا , لكن هاديا كانت تؤكد لي أنها هي ايضا ترى طفولتها تعسة رغم وجود أمها وأبيها معهم , تقول لي هاديا , ان أي حرمان هو الذي يسبب التعاسة . حرمان العاطفة , المال , احساس الفقد , الغياب , أشياء كثيرة تتضافرتخلق تعاسة لا نعيها في وقتها بسبب جهلنا , ثم مع مرورالوقت نكتشف الفراغ الذي سببته.
في صغري كنت أتسلق شجرة التوت , عندما نذهب لزيارة أقارب جدتي في الجنوب , " التوتة الحمرا " كانت هدفا دائما لي لتسلقه , كنت أقنع أولاد وبنات أقارب جدتي بأن نقوم بتسلق أغصان التوتة حتى نصل لأعلى غصن . متعة الوصول لأعلى غصن كان بمثابة الطيران الى أعلى , الانعتاق من رؤية الآرض , وكل ما يربطني بها . عندماةكنت في الثانية عشر , سقطت من أعلى التوتة وكسرت يدي , وظلت ملفوفة برباط الجبس ستة أشهر , وفي المدرسة كنت أذهب بيد يسرى مربوطة الى عنقي , رغم تفوقي في دروسي الذي لم يؤخره مرضي , الا أنني كنت أحس بخجل كبير من نفسي , ومن بنطالي الكحلي , وبلوزتي الرمادية , وجاكيتي البرتقالي .
الفتيات تعاطفن معي وساعدنني في دروسي , صرن أكثر ودا معي وألفة , ورغم أن حادثة سقوطي هذه قربتني من بنات الصف الا أنني منعت بتاتا من تسلق أغصان "التوتة " التي دخلت لائحة الممنوعات .
في عمر الرابعة عشر تغير شكلي , زاد وزني كثيرا , أصبح 75 كيلو جراما , بطل يصل الى 160 , كما ظهرت البثور في وجهي , وصارت بشرتي تشبه حبة الفريز محمرة ومليئة ببثور صغيرة ..
في المدرسة أحس بالخجل من الألوان التي أرتديها , ومن ثيابي التي تشتريها جدتي لي من " البالة " , انت تحتفظ بالثياب التي ترسلها أمي لأيام العيد والمناسبات . أحس بالخجل من أحذيتي مازالت لدي عقدة الحذاء حتى الآن . جدتي انت تختار لي أحذية غريبة الشكل , كبيرة مدببة , أقرب الى أحذية الأولاد , يخضع اختيارها لها وفق صلابتها , اذ علي أن أمضي الموسم كله في هذا الحذاء . أنظر الى أحذية زميلاتي التي تميز بالجمال والأناقة , هل ينبغي اذا كان الحذاء جيدا أن يكون قبيحا . لكنني لم أكن أستطيع الاعتراض .
كان من المحظورات ارتداء الثياب الجديدة في أيام الدراسة , تقول لي : " انتي رايحة تتعايقي بالتياب أو تتعلمي " . لا يمكني نسيان أنها يوم صنعت لي ثقبا في أذني لأضع الحلق استعانت بجارتنا " أم فؤاد " لتصنع لي ثقبا بالابرة , وتضع في أذي خيطا مدة أسبوع .
تغير هذا الوضع عندما صارت أمي ترافقني في جولات شراء وتشتري لي ثيابا جديدة , لم تكن تسأل جدي عما تفعله بالمبلغ الشهري الذي ترسله لها ان كانت لاتنفقه علي اذن ... كان هناك اتفاق ضمني بينهما على عدم السؤال . منعتني أمي من لبس البلوزة الجزرية اللون , والبنطلون الأسود القيبح , والحذاء ذو الكعب المدبب , قال لي يومها انني أبدو مثل " عاملات النظافة في المستشفيات ". أجرت أمي تعديلات جوهرية على مظهري , وتسريحة شعري , اصطحبتني في جولا شراء الى أماكن لم أعرف أنها موجودة في بيروت , معها اكتفت مناطق أخرى خارج الضاحية الجنوبية , رأيت وجهاآخر للمدينة لم أجرؤ يوما على اكتشافه رغم معرفتي بوجوده . معها عرفت محلات ( آ . بي . سي ) في الأشرفية , ومحلات الثياب في شارع مار الياس , وشارع الحمرا .
لكن رغم ما تفعله أمي معي ظلت مشاعري نحوها متناقضة , ومبلبلة , طريقة العطاء التي اختارتها لم تكن كافية لتقليص المسافات بيننا . هناك فجوة لا تردم . كنت أخجل من نزع ثيابي أمامها , أو من الحديث في أي موضوع حساس , لو دث ذل يتابني احساس الوجود في غابة شائكة , لما توغلت في دخولي لها , لا يمكنني الخروج لذا كنت أتراجع بعد عدة أمتار .
***********************
حين صار عمري سبعة عشر عاما , بدأت بخسارة الوزن , كنت أعرض جسدي ضربات قاسية من الحرمان , وأبتلع سرا على الريق حبوب تقطع الشهية وتقضي على رغبتي في أكل الشوكولا والشيبس والكرواسان . كنت قد كبرت وصار بامكاني الاحتجاج على قائمة الممنوعات التي تضعها جدتي . لكنني بقيت أره أيام العيد , أكره المناسبات كلها التي يجتمع فيها الناس , أيام العيد تسبب لي احساسا بالقهر , كل ما كان يمكنني نسيانه خلال العام , يلح علي عدما يزورنا الناس أيام العيد ويظهرون شفقتهم علي , ممتدحين جدتي وسن تربيتها لي . احداهن تقول لها :
" والله ياحجة انتي شفتي أيام أمر من زوم الزيتون , حرب وشحار وتعتير , وتربايتك للبنت الليأمها ر كتها وما سألت " .
وكانت جدتي تهز رأسها بأسف , وتكسو ملامحها حكمة القديسين قبل أن تنطق كلماتها الحكيمة "ايه في الله ... مابيضيع عنده شي " .
ظللت أكره ليلة رأس السنة , التي يحتفل فيها الناس ببدء عام جديد , لكنني نت أنام باكرا قبل الساعة 12 لأن جدتي تطفئ التليفزيون قائلة : " قومي شوفي دروسك , أو نامي شوي , أحسن من أكل هاالهوا الفاضي " .
لكن دائما كان في داخلي حسرة على ليلة الميلاد لأنها ظلت مجهولة بالنسبة لي لا أعرف طقوسها , هذه الليلة التي يتم الاستعداد لها منذ مطلع " ديسمبر " حين تتزين المحلات بشجر الميلاد , ويحضر اللون الأحمر في أزياء بابا نويل وكيسه وهداياه , ونبتة " قلب العاشق " الحمراء الصغيرة , تلك النبتة التي أهديتها محمدو , وظلت تزين شقته لأكثر من شهرين .
*************************
الآن أدرك أنه ليس من السهل على طفلة أن تنسى زيارات " مأوى العجزة " . لكن رغم ذلك لم أحس بالحقد على أحد . لم أكره أمي لأنها تركتني وعمري خمسة أعوام لتربيني جدي , ولم أكره أبي الذي يشرب مساء كل يوم ثلاثة كؤوس من العرق الوطني . أبي الذي أمضي حياته كلها في ثلاثة أمور : " عمله في مكتب البريد , والصمت , وشرب العر ق " .
ان يعود من عمله في الثالثة ظهرا , يدخل الى حجرته يتناول الغداء فيها , ثم ينام القيلولة , ستيقظ قبيل المغرب بقليل , ينزل الى المقهى يلعب الطاولة والورق , يعود مساء يتناول عشاؤه ويشرب كؤوسه الثلاثة . لم يكن يسكر , كل ما كان يفعله أن يخرج عن صمته , العرق يساعده على الكلام وفي كثير من المرات كان يحكي قصته مع أمي , وكيف تركته .
كان يشرب العرق ويشكو لله هجر أمي قائلا :
" منها لربنا اللي كانت السبب ... ضلت تلعب بعقله حتى خلتها تترك البيت وتتركك يا ندى ...
كنا عايشين سوا مبسوطين ... وكان زمانها هلق معك عم تربيكي ".
عندما كبرت كنت أفكر الى هذا الحد أحبها ؟
وبهدف دفعها للاتصال به كان يمنعني آحيانا من الذهاب لرؤيتها حين تأتي من السفر , كان يأمل أن تتصل به وتستعطفه ليسمح لها برؤيتي لن كل ذلك لم يحدث ابدا لأن أمي تكتفي بالاتصال بجدتي وتسوية وقت اللقاء بي ... خلال مرض أبي حين أصاب ظهره " ديسك " كان راتبه الشهري يذهب لنفقات العلاج , وكان يعيش من المبلغ الذي ترسله أمي الى جدتي , لذا لم يكن بمقدور جدتي أن تسئ معاملتها وتخضع لنزوات أبي حين يحرضها على منعها من رؤيتي , كانت تصرخ في وجهه قائلة :
" والله أنت واحد مفتري , لو ما المصاري اللي عم تبعتهن ماجدة من وين كنا رح نعيش لم أت مرضت , ما شفت كيف خيك ما سأل فينا , وأختك مرمية بالمستشفى بدها هالقد مصاري للعلاج " .
في البداية لم أكن أعرف من يقصد أبي حين يقول " ضلت تلعب بعقلها " اتضح لي فيما بعد أن المعنية هي خالتي " وفاء " , خالتي التي لم أتعرف اليها الا حين صارت أمي تأتي من السفر وتصاحبني لزيارة خالاتي وخالي الذين يسكنون في البقاع متوزعين مابين " بعلبك " و " أبلح " .
كنت أتخيل خالتي " وفاء " من كلام أبي عنها امرأة شريرة حقودة لكنني حين التقيت بها وجدت أمامي امرأة مقهورة حزينة تميل الى الصمت , مازالت موجوعة من حادثة قتل زوجها الغامضة والتي لم تعرف من اركبها .
**************************
" الشغف ان لم يكن مدعوما بقوة جارفة لا يمكنه مواجهة الخوف وقتله " .
كما لو أنني كنت في كهف تظلله البرودة .. الرطوبة والعتمة .
مضى علي أيام عدة منذ غادرت البيت آخر مرة .
حين خرجت الى الشارع غمرني ضوء كثيف ... لم أستطع رفع وجهي نحو الشمس , عيناي تدمعان أرغب بالانسحاب والعودة الى كهفي , كلما أحسست بالوحدة لما مضيت أكثر نحو عزلتي .
لماذا كلما واجهت الحياة أجد هذا الكم من العنف والخوف ؟
هل صحيح أن " الارهاب " هو زرع الخوف في نفوس الناس البسيطة ؟
لولا خوف نجلا من مواجهة " عبدو " لما قتلها ... لولا خوفها من تحدي المجتمع والجهر بأنها تحب رجلا آخر ماكانت ماتت ...
هل أنا آيضا من الناس الخائفين ... القابعين في كهوفهم ... أعيش خائفة من الأشباح التي ستأتي الي ذات يوم وتدفعني للصراخ كالمجانين , فيقرر عمي أن يضعني في المستشفى كما حصل مع عمتي ... سترسل لي أمي المال , وستأتي لزيارتي خلال وجودها في أشهر الصيف , وربما لن تأتي لأن أعصابها الرهيفة لن تحتمل رؤية مريضات المستشفى , كما لن تحتمل رؤية المسنين الذين يشغلون الطابق الأول , ويخرجون للمشي في الحديقة الخلفية أو الجلوس مع أولادهم في كافيتيريا المستشفى .
المعادلة التي تحكم الحياة والموت صعبة وعسيرة التفسير . يفرح الأهل بقدوم مولود لهم , تغمرهم سعادة بالغة وهم يرونه يكبر أمام أعينهم . فيما بعد , بعد سنوات كثيرة سينتظر هذا الابن موتهم ليخففوا عنه مسئولية كبرهما في السن واحتياجهم له . معادلة غريبة جدا لكنها مستمرة استمرار الحياة وان ان البعض لايواجه نفسه بها الا أنها قابعة في عمق ذاته .
***********************
أصعد باتجاه الدرج , أعبر الطابق الأول , ثم الثاني .
أقف أمام الباب الكبير , الباب الذي يصيبني ماوراءه بالجزع . أكبس بسبابتي على الجرس , أضم يدي وأضرب آيضا على الباب ضربتين , وجهي شديد الصفرة لا أحتاج مرآة لتؤكد لي ذلك , أعرف أن الدماء كلها تتحرك بينقلبي ويدي فقط , فيما سائر أعضائي جافة تماما .
ينفتح الباب . اناه ذات الممرضة المرعبة التي رأيتها آخر مرة , حين أتيت برفقة حسان ابن عمي . أرى وجهها شديد السواد , أعرف أنها ستقول لي لاتوجد زيارات اليوم وان علي تر الأغراض عندها والمال في خزنة المستشفي لذا أبادرها بأن أمد يدي بالكيس في تهيؤ تام لأنزل الدرج بتعدة بسرعة , لكنها تمسكني من يدي , تشد على اليد التي تمسك الكيس وتضع يدها الأخرى على تفي تسحبني الى الداخل من دون كلام نقف أنا وهي في الصالو الواسع الذي تجلس فيه المريضات ليشاهدن التليفزيون مساء . المان هادئ تماما , خالي سوى من بعض الأصوات التي ترتفع من الحجرات . ماهذا الهدوء المرعب , من أين انبعثت الأصوات التي كنت أسمعها وأنا في الأسفل اذن ؟ ثم أين هن المريضات اللواتي ن يلوحن لي من نافذة الشباك التي تشبه نافذة السجن , أين هي عمتي أيضا ؟
تشير علي الممرضة للسير ورائها في الممر الطويل , يبدو لي أن لا نهاية له .
في زيها الأبيض المخيف تسير أمامي , قدميها تبدوان شديدتي السواد عند نهاية حافة المريول . صندلها الأبيض أيضا ذو الكعب الضخم يبدو لي بشعا أيضا .
تتركني وجها لوجه أمام باب خشبي فيه مربعات من الزجاج السميك الذي يبدو ما خلفه مجرد أشباح متحرة , على الحائط قرب الباب يافطة صغيرة مكتوب عليها " رئيسة قسم التمريض " . تتجاوزني الممرضة , تفتح الباب وتدخل بسرعة , تتركي خارجا , تضم أصابعها الخمسة في شل هرم فتبدو لي رؤؤس أصابعها مثل مخالب حيوان مفترس وهي تحركها لتشير لي بالانتظار .
دقيقة من الوقت مرت ببطء كنت أحس بأجزاء الثانية وهي حدود زمني الثقيل .
تخرج الممرضة , تعبر من أمامي وهي تمنحني ابتتسامة تعاطف صفراء ثم تبتعد عبر الممر الطويل .
وقفت وجها لوجه أمام رئيسة الممرضات التي تجلس على كرسيها الواسع , كانت سمينة وقصيرة , مربعة الجسد , وجهها كبير أيضا , عظمتا خدها بارزتان رغم كتل اللحم التي تغطيهما ,
عيناهما تضيقان تحت جفنيهما السميكتين , وقفت فبان لي كتفها وصدرها كتلة واحدة .
ملامحها كلها جامدة من الصعب التنبه الى ماتود قوله .
ثم ...
ماذا كانت تقول ... ؟
لا أذكر تماما .
عبارات ... عبارات .. لا هوية لها .
عبارات تفيد حقيقة واحدة .... " ماتت " ... عمتي ماتت .
كررت الجملة ... وأيضا كررت عبارات لا تجدي , السئلة التي ترافق حدث الموت , كيف ومتى ؟ أين ؟ ولم ؟
" اتصلنا بعمك , وخبرناه علشان تشوفوا موضوع الدفن كيف بده يتم , نحنا مفكرين انك عارفة, وجاية تردي علينا خبر , هي وفت اليوم عند الفجر ... البقاء له .. ربنا ريحها وريحكن .. ربنا خفف عنكن وعنها " .
لم تكن تتحدث بتعاطف معي , كانت من ينقل خبرا مريحا . كانت تراني لحظتها مثل الأبناء الذين يضعون أهاليهم في دار المسنين وحين يعرفون بموتهم , يعتبرون أن الموت جاء رحمة لكليهما , فيفرون فرحا سريا يخجلون من اظهاره .
يدي متيبسة على الكيس الملئ بالمشتريات . تتراخى يدي عنه , يسقط على الأرض , أسمع صوت ارتطام عنيف , يتزامن مع دوي انفجار بعيد . يبدو على الممرضة التململ وأنا أحملق بها وبالمكتب الذي تجلس عليه .
عمتي ماتت اذن ... علي مغادرة هذا المكان بسرعة ... علي مغادرته الى الأبد .
أقف ... أتحرك خطوين نحو الباب برودة عنيفة , ثلج يملأ أوردتي وأعضائي كلها .
صوت الممرضة يأتيني من الخلف قائلة " لوين ... لازم تستلمي غراض عمتك , وتضلي هون ليجي عمك ويتمم اجراءات الدفن " .
ينفتح باب الغرفة بسرعة , أجد الممرضة الأولى أمامي , التفت برأسي الى الوراء نحو رئيسة الممرضات تشير اليها باصطحابي , أمشي خلفها , خطواتي متكسرة , قدماي تتضخمان , الآن لا يوجد في كل جسدي سوى قدمين تسيران في ممر طويل .
نصل الى الصالون الذي تجلس فيه الممرضات , تشير علي الممرضة بالجلوس , أجلس في المقعد الذي رأيت عمتي تجلس فيه . تنظر الى الممرضة فلا أرى سوى عينيها اللتين تشبهان عيون مصاصي الدماء , تندفع من فمها عبارة مفادها أن علي الانتظار ريثما تعود . تبتعد هي , بدأ المريضات بالصحو , يدخلن الى الصالون الواسع , أحس بهلع كبير , انكمش على ذاتي , أفكر بالهرب عبر الباب الذي دخلت منه , أحرك قبضته , الباب مقفل , قهقهة كبيرة ترتفع من مكان ما , أعود لأجلس على المقعد الشاغر الذي تركته , مكان عمتي . انتظر قدوم الممرضة ... استند الى ذراع المقعد , أشد كلتا يدي على معدتي , اعتصار حاد يمزقني , ورغبة عالية في الصراخ ... صراخ يتحول الى زعيق , أقع على الأرض .
آخر ما أذكره صوت قذائف يتتالى انفجارها ... رائحة البارود ... دخان أرى أخيلته ترتفع من مكان ما . روح عمتي تتحركفي الغرفة , أشباحها حولي تماما, بينها شبح كبير جدا , هائل الحجم , رمادي اللون , يقترب مني مقهقها , أسمع ذات الصوت الذي كان يصدر من عمتي لحظة مرضها , دوار عنيف في رأسي ...
صوت القذائف يتتالى ... الممرضة البنية اللون تعود الى الغرفة معها ممرضة أخرى , يمسكاني من كتفي , يدفعاني للوقوف . للسير الى الداخل , العودة الى الممر , الى ظلاله الرمادية .
أسير معهما ببطء .
أصوات القذائف تتسارع أكثر .
قلبي ينبض وينبسط في نبض سريع , جسدي يصير مجرد قلب الآن , ووجه فيه حدقتان متسعتان بهلع , قدماي تتضاءلان , تميدان بي , غصة عند حلقي , قيء يندفع من معدتي الفارغة , اعصار يدور في أمعائي و... و... و... والحرب ....
الى متى تستمر الحرب ؟
وأنا ... وأنا ... ماذا أفعل هنا ؟
النهاية
***********************
صدر أيضا للكاتبة لنا عبد الرحمن :
* شاطئ آخر " مقالات في القصة والرواية "
* أوهام شرقية " مجموعة قصصية " .
* الموتى لايكذبون " مجموعة قصصية " .
* حدائق السراب " رواية " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق