
الأحد 22/11/200م.
صالون الدكتور زكي العشماوي ومناقشة المجموعة القصصية " في انتظار القادم", للكاتب محمدعطية .
النسبية في سرديات الزمان المكاني
********
دراسة في مجموعة " في انتظار القادم " لمحمد عطية محمود
الأستاذ الدكتور/ السعيد الورقي
في انتظار القادم مجموعة قصصية جديدة للكاتب محمد عطية، تقدم سرداً مغايراً وجديداً ومؤكداً على أن القصة القصيرة أصبحت شكلاً بلا شكل، ومؤكداً على أن القصة القصيرة هي الفن المتمرد دائماً، والحداثي دائماً والمتطلع إلى الجِدة المستمرة في القالب الفني لتقديم حكاية الحياة في أزمنتها وأمكنتها وحركتها وهي تتحول جميعها إلى لحظات اجتماعية مسكونة بالإنسان.
*
الحياة والإنسان عند محمد عطية، سعي كل يوم من أجل الاستمرار، يقدم من خلالها الكاتب مشاهد لعلاقات تتداخل أحياناً وتتصارع أحياناً وتتقاطع أحياناً أخرى، لكنها في كل حال صور للحياة من خلال الإنسان وصور للحياة داخل الإنسان، تتحرك به ومعه في أبعاد الزمان والمكان والنسبية.
*
الزمن في قصص المجموعة لحظات الفعل وعلاقات التفاعل وحركة التوتر والسرد. والكاتب لا يعطي قيمة كبيرة للزمن الخارجي الذي توقفت ديناميكيته؛ فالزمن المتحرك هنا هو فقط الزمن النفسي النسبي الداخلي الذي يتحرك بحرية وسيولة مراوغة في فضاء النص، وتابع معي حركة الزمن في أية قصة من قصص المجموعة، ولتكن قصة " دقات "، وانظر إلى علاقات الترابط بين أزمنة الفقرات، ستراها كما في غيرها أزمنة متداخلة في زمان واحد هو الزمان النسبي أو النفسي الذاتي:
" تتزامن تكات مفتاحك في طبلة الباب، مع دقات ساعة الصالة.. نحو الشباك المواجه، تترنح خطواتك.. تؤوب خطواتك بعد سكونها للحظة، نحو الكراسي.. تدور متلفتاً يحيط بك رنين الهاتف المتوالي.. يهتز رأسك بفروته البيضاء الخفيفة.. تتأمل الصورة التي صارت إلى يمينك.. تردد في داخلك.. تبتسم.. تترحم على أبيك.. عناوينك الوامضة لا تفارق رأسك.. تتقدم خطوة داخل الحجرة.. تستريح قليلاً.. تتنهد.. تتناول كوب عصير الليمون بالسكر.. حتى تعاود الساعة التي فوق رأسك دقاتها.. تتزامن مع صوت احتكاك حذاء طبيبك بآخر درجات السلم الصاعدة.. "
الزمن هنا زمن دائري، محوره الإنسان يبدأه من حيث شاء، ومن اللحظة التي يشاء على محيط الدائرة ليعود إلى زمن البداية من جديد، وما بين نقطتي البداية والالتقاء أزمنة كثيرة تتحرك ما بين الحاضر والماضي والمستقبل.
*
وتقدم حركة الزمن النسبي هنا في مراوغتها وسيولتها، حركة المكان الذي يتشكل في قصص المجموعة تشكيلاً مميزاً وجديداً وغير مألوف في السرديات القصصية التي بين أيدينا.
المكان في قصص محمد عطية، بطل سردي يتحرك بالزمن، ويتحرك بالإنسان، ويتحرك بعناصر السرد الأخرى من حبكة وصراع ومعنى، وهو مثل الزمن في قصص محمد عطية، مكان نسبي محمل بالبعد الإنساني ومتحرك بانفعالاتها.
وانظر إلى حركة المكان في بعدها النسبي في قصة مثل قصة " اختراق"، وأسوق هنا جزءً منها لترى كيف أصبح المكان سارداً، وكيف يتحرك من خلال النسبية النفسية:
" تتسلل خطواتك مرهونة بنظراتك الوجلة، حول محيط الحوض الشرقي.. من خلف حاجزه المسلسلة قوائمه المعدنية المتمايلة المتناثرة، بحلقات متشابكة. تهبط نظراتك مع درجاته الخرسانيةـ بلا ساترـ المتشبعة بملح الأرض من حولها والرمال الخشنة المتطايرة من رمَّالة المراشمة. تدور مع البروزات المتوازية بجوانبه الثلاثة، تخترقها السلالم المعدنية المتضمخة باللون الأخضر الطحلبي المنزلق؛ لتؤدي إلى الكتلة الأسفل منها.. كما تراءت لكَ في أسفارك الليلية، والتحمتَ بها، وجاهدتَ أنفاسكَ ومكامنك، كي لا تنزلق مع طحالبها.. وتهوي إلى قرار الحوض الذي بدا لكَ ممتلئاً تسعى فيه رايات بيضاء مشرعة.. تنحدر منك نحو الأرضية الموزعة فيها قواعد تحكم رسو ما تعطل من سفن... إلخ"
*
نقل محمد عطية، مركزية السرد من الإنسان، فنفى عنه سلطة الحكي والتحريك، فالإنسان في الفلسفات الحديثة لم يعد سيد الكون، وإنما هو عنصر من عناصر أخرى منوعة منها الإنسان. ومن هنا برز المكان كياناً سردياً يمكن أن تكون له سلطة الحكي وبطولة السارد، وهو ما يؤكده منذ البداية عنوان المجموعة وعناوين معظم القصص التي غلب عليها التنكير للشيوع والعمومية مثل " شرفة ـ صباح قباري المنور ـ اختراق ـ فواصل ضيقة ـ إفاقة ـ متاهة العارف ـ خارج السرب ـ تسلل "
ولمحمد عطية طريقته الخاصة والمبتكرة في تحريك المشاهد المكانية في زمنها الخاص. فهو يركب الجمل تركيباً متوالياً على نحو توليدي حيث تتوالد الجمل الوصفية من بعضها باضطراد متداعي:
" ترفرف الروح بجناحي الرهبة والمغامرة، بينما تجتاح قسمات الوجه قشعريرة تزم العينين اللامعتين بدوائر تشد معها ما حول الأنف وفوق الشفاه، النابت فيها زغب الشارب، لأعلى..( قصة "نصف حلم.. نصف روح" )
" يلتصق جسمك ـ متعامداًـ على حد الجانب المغلق للباب الحديدي، بالمدخل الرخامي البارد، وتتعلق يداك ـ متقاطعتين ـ فوق رأسك بأعلاه، وبنصف وجه.. تحدِّق بالداخل.. تخترق عينك اليمنى نحو شجيرات الورد على الجوانب.. تبحث ـ بحيرة ـ وسط وجوه باسمة وأخرى واجمة، متحلقة حول المناضد... إلخ ( قصة " طقوس.. للرؤية" )
*
القصة القصيرة عند محمد عطية، هي اللحظة الأكثر حيوية وامتلاءً بالحياة، والحياة هي كل عناصر الكون، وليس الإنسان فقط، الذي أزاحه الكاتب عن مركزية السرد إلى عناصر أخرى يمكن أن تكون لها البطولة وخاصةً الزمان والمكان.
وقد استطاع محمد عطية أن يقدم لحظة افتراضية يتداخل فيها الزمان بالمكان؛ ليصبحا نسجاً واحداً يمكن أن يحرك الحياة حركة نسبية في بعد جديد يتجاوز الأبعاد التقليدية.
*
هذا التصور الجديد للقصة القصيرة والحياة في حركتها وصياغة هذه الحركة، كان بحاجة بلا شك إلى لغة سردية جديدة وهو ما قدمه محمد عطية. فإلى جانب اتكائه على الشاعرية الانفعالية واعتماده على تقنيات تعدد الضمائر وتداخلها واستخدام أساليب المونتاج والكولاج، نجد هذه اللغة التوليدية حيث يجمع الكاتب في ترابط توليدي متداعي مجموعات من المصاحبات الدلالية لغوياً وضوئياً، لتدعيم الدلالة الانفعالية من ناحية، ولتقديم توافقات نغمية تقدم خلفية الحركة والصورة:
" انعكست الأنوار المنبعثة من مخادعها بترابيع السقف الصناعي على الحوائط اللامعة، وأرضية ممر
( العناية المركزة ) المزججة، اصطدمت بالخطوات الملهوفة للأحذية المدببة الكعوب... يتباين إيقاع تقابلها مع الأرض، نحو الباب العريض المغلق في نهاية الممر، يشع من خلال زجاجه ضوء فوسفوري خافت، تبرز أسفله عبارة ( ممنوع الدخول ) ... إلخ " ( قصة "غيبوبة" )
*
لقد أراد محمد عطية أن يقدم نصاً سردياً جديداً يحتفظ بالتقاليد الأدبية لفن القصة القصيرة مع طموح متمرد يرفض المألوف والتقليدي، فكان هذا السرد الجديد الذي قدم مشاهد وصفية لحركة الحياة بما فيها من لحظة وموقف افتراضي يتصل فيها الزمان بالمكان في بعد نسبي شديد الخصوصية.
وأعتقد أن الكاتب وفق في هذا بفضل إدراكه الواعي لحفيات فنه، وبفضل إحساسه الواضح بلغة الأداء وبفضل وعيه المتحفز للتمرد والمخالفة.
أ . د/ السعيد الورقي
قصة قصيرة
*****
في انتظار القادم
******
انكمشت على جسدها الضئيل .. ضامّة ذراعيها على صدر المعطف الرمادي المفتوح على جلباب مشجر ، هابطة بذقنها .. تضغطها على صدرها . تتوارى لفة ( إيشاربها ) الأحمر داخل ياقة المعطف المرفوعة إلى مستوى ما فوق أذنيها .. توخزها البرودة الصاعدة إليها ، عبر الـ ( كرتونة ) التي تتربع عليها فوق أرض الرصيف .. تشمل ظهرها رعشة ، تدفعه قليلآ عن الحائط الرطب كلما استندت عليه .
أرسلت نظرتها ، التي مازالت طفولية ، معجونة بصبر اعتياد جلستها . .. تتخطى بها حدود و ارتفاع صندوقها البلاستيكي ، الرمادي الغامق ، تغطي سطحه لفافات الحلوى بألوانها الشفافة . حركت نظرات عينيها الزرقاوين ، أسفل جفنيها ـ المنتفخين قليلآ ـ يمنة و يسرة ، كقنفذ يخرج رأسه من بين كتفيه الضاغطين على رقبته .. تغالب طعم المرارة في ريقها .
ارتكنت نظرتها على اول قادم ؛ لتنشغل به ـ للحظات ـ عن إحساسها المتنامي ببرودة الجو . داعبها الأمل أن تستفتح به بيعها . خرج نداؤها من بين شفتيها الجافتين ، واهنآ مرتعشآ .... و عيناها لا تدركان أعلى من مستوى ارتفاع ركبتيه عن الأرض ، حتى مر و تركها ؛ لتسكن أنفها الصغير ـ الذي حمّرته هبات الصقيع على وجهها ـ رائحة ( الفول و الفلافل ) من كيس يحمله . ابتلعت ريقها ، و ما لبث أن عاودها الشعور بقرصات البرد .
تحسست جيوب معطفها ، الخاوية . لمحت صبي بائع الجرائد ( السرّيح ) قادمآ من بعيد . لوّحت له بإحدى لفافات الحلوى . همّت تنادي عليه ؛ كى يبادلها ـ كاعتياد مسبق ـ به ( ساندويتش ) يشتريه لها من المحل المقابل ، على الجانب الآخر من الشارع ، لكنه تحوّل عنها قبل أن يدركه نداؤها .
دست يدها في الجيب العلوي لصدر جلبابها . أخرجت ورقة نقدية صغيرة مطبّقة كـ (حجاب ) صغير . همّت تغادر مكانها ؛ كى تبادر إلى المحل ، و تعود مسرعة . باغتها خوف شديد على صندوقها ، تآلف مع رعب خوفها الدائم من مطاردة محتملة ؛ فقبعت مكانها .. تتطلع
ا لى لحظة اختراق شعاع الشمس لحجب برودة صباحها العنيدة.
محمد عطية محمود
الإسكندرية
متاهة الـ .. عارف
*****
ترمقني نظراتكم المتشككة ، ثم تتحاشاني متخابثة ، ثم تعود تحدجنى بقسوة أشعر بها ، و لا أراها ، لكن لا أبالى ؛ فأنا أدرك تماما كم أنا مختلف عنكم . كما أنكم لا تعلمون مدى ما أبذله كي أحيط بكل ما أعرف .
شرحت لكم مرارا كيفية عمل كعكة الفواكه ، التي أجيد صناعتها في الفندق.
انتظرني أيها المتشاغل بهذا المسمار الغريب ، بين يديك ؛ فأنت لا تعرف قيمته .أراك مستغربا .. سوف أقول لك .. هذه النوعية من المسامير لا يتم التعامل معها إلا من خلال آلية استخدام مفك خاص . كما أن له نوع من الـ..ورد الكاوتشوك التي تحكم تثبيته ، كما انه لن يفيدك في شيء . لكن قل لي أين وجدته ؟
دعه لي ؛ لأحتفظ به في شنطة عدتي ؛ سوف ينفعني .
أما بالنسبة للكعكة فاني ...
فاتنى أن أقول لكم أن تركيب هذا الجزء الهام من المروحة ، لا يتم بهذه الصورة العشوائية التي وضع بها الكهربائي بصمته الفاشلة عليها .
سوف أفكها حالا ، و أثبت هذا الجزء الذي يصدر أزيزا يكاد يفتك برأسي ، و أنا أتكلم .
و طريقة تقطيع الفواكه لا تتم بالطريقة العادية ، إنما تستلزم ...
آه .. هذه الأعراض المرضية التي تتهامسون بها ، و تمصمصون عليها شفاهكم أعرفها تماما ؛ فلي أصدقاء كثيرون يعانون منها . ما على الشاكي حيال هذا الأمر إلا أن يستعمل عقارا واحدا .. يريح المعدة ، و يهدئ القولون .. أعرفه جيدا .. سأدوّن اسمه في ورقة لمن يحتاجه ..
و كمية البيض التي تستلزمها الكعكة هي ..
لا لا .. هذه الأعراض التي تتكلمون عنها الآن ، مختلفة تماما ، و لا تستدعى أية نوعيات من العقاقير الطبية ؛ فانا أعرف عشّابآ جيدا .. سوف أعطيكم رقم هاتفه و هو ليس ببعيد .. معي كارتا شخصيا له .. أنظروا كم هو براق .. يمكنكم الاحتفاظ به ، و سأصف لكم أيضا المكان بالتحديد ، حتى لا تذهبوا إلى غيره ، ثم أنه لن يصف للعلاج أكثر مما وصفه لصديقي ، و هي وصفة سهلة أعرف مكوناتها .
نوعية مسحوق الخبيز مهمة جدا ، لا بأس أن تكون ...
هذه المباراة التي تتحدث عنها ، لم تكن في هذه البطولة ، بل كانت في بطولة سابقة ، و لم يكن الفريقان اللذين تتحدث عنهما ، كما أن اللاعب قد أحرز هدفين ، و ليس ثلاثة ، و لم يفز بالكرة الذهبية ، و الحكم كان أوروبيا و لم يكن أسيويا كما تقول .. أكرر .. هذا اللاعب لم يفز بأية ألقاب أخرى غير لقبه المحلى ، و لا تصدق غير ذلك .. أظنه كان من جيل ....
درجة حرارة الفرن مهمة جدا ، فمن المفروض ألا تزيد عن ...
على فكرة رائحة تسرب الغاز التي تشمونها الآن ، لا حل لها إلا فك جميع عيون البوتاجاز ، و وضعها في محلول خاص سوف أجلبه لكم . قد يقول أحدهم ، لابد من تغيير الصمامات .. لا لا .. ليس مهما ؛ فهي تكلفة زائدة .
و مدة مكوث الصينية في الفرن لا يجب أن تزيد عن نصف الساعة حتى تنضج كعكة الـ .....
التي تاه عن عقلي اسمها الآن ، لكنني أعرفه جيدا.
محمد عطية محمود
الإسكندرية
قصة قصيرة
******
في حضرة الرائحة
*****
تجتاح رائحة القهوة الذكية حواسي . ترتقي بي حدا بالغا من النشوة و الحضور . طوافها المنبعث دوما ـ من مكتب مدير العمل ـ يجذبني . يجعلني ألهث ؛ حتى أبلغ سببا من أسباب تواجدي بقربه ، و الاستمتاع بهذا العبق الطاغي ، مختلطا بأثير خاص .أعلم أنه يأتي ببنها خصيصا من محل شهير و عتيق بالعاصمة ، حال سفره المنتظم لحضور جلسات مجلس الإدارة.
تحدثني نفسي في حضرته بأنه قد يتفضل علىّ يوما بفنجان أزاوج به بين متعتي التذوق و الاجتياح . لكنه يتركني في لهاثي . ينشغل عنى في أوراق عمله المرهق ، فيما بين رنات تليفونه المتوالية . يترك معي أذنه ، و هزات من رأسه ، مع نظرات متواترة من خلف نظارته .. يواجه بها بسماتي الرقيقة المتوددة في حياء ، و عيني اللتين لا تفارقان ملامحه الجادة ، و تلذذي بالرائحة .
تؤلمني رؤية باب مكتبه مغلقا ـ حين يغيب عن العمل لأي ظرف كان ـ فلا أجد بدآ من ولوج مكتب نائبه ـ على مضض ـ بحثا عن تلك الرائحة أو شبيهة بها ؛ فتخذلني ردود أفعاله البطيئة ، و تصدني رائحة عطره الرخيص ، و تذهب حواراتي المبتورة معه أدراج الرياح ، و يتنامى شعوري بحاجز يفصلني عنه .
في الجامعة .. كانت بداية ولعي بزوجتي ، و بتلك الرائحة ، التي لا تنبعث إلا من مكتب أبيها ـ أستاذي في الجامعة ـ و ظل حلما عنيدا ، استعصى على التحقيق ، أن أظل ملازما له في حجرات هيئة التدريس بعد تخرجي كزميل أصغر . لكنني آنست الرائحة في بيتهم ، لارتباطي بابنته فور التخرج ، و طابت جلساتي بغرفة مكتب حمىّ ، و في معيته ، و ظلت تأسرني رائحة جديدة للقهوة الفواحة ، التي لم تكن فناجينها لتنقطع عن سطح مكتبه العريض ؛ لتوافد أصدقائه و معارفه من ذوى النفوذ و المناصب . لكنني لم أنعم بقربهم كثيرا ، و لم أحظ بطعم القهوة المراوغ ؛ لرقدته المباغتة حتى رحيله . و صرت أفتقد الرائحة في البيت الخاوي .
زملائي بالعمل.. يجمعهم المقهى المتواضع وقت الراحة ؛ فتعلو أصواتهم بالضحكات و الخناقات .. يحتسون ما شاءوا .. يدخنون .. يتفاعلون .. لا تضايقهم رائحة المقهى الخانقة ، و لا يبالون بأشياء كثيرة قد تحدث في محيط العمل ؛ فالجدران تهمس بأن المدير سوف ينقل ، و ربما كان لنائبه دور مؤثر في إدارة العمل . و مما لا يضيرني في شيء أن يدعوني ولعي الأثير إلى تجاوز ما بيننا من حواجز ، على أمل أن تغازلني تلك الرائحة في حضرته .
محمد عطية محمود
الإسكندرية
متاهة الـ .. عارف
*****
ترمقني نظراتكم المتشككة ، ثم تتحاشاني متخابثة ، ثم تعود تحدجنى بقسوة أشعر بها ، و لا أراها ، لكن لا أبالى ؛ فأنا أدرك تماما كم أنا مختلف عنكم . كما أنكم لا تعلمون مدى ما أبذله كي أحيط بكل ما أعرف .
شرحت لكم مرارا كيفية عمل كعكة الفواكه ، التي أجيد صناعتها في الفندق.
انتظرني أيها المتشاغل بهذا المسمار الغريب ، بين يديك ؛ فأنت لا تعرف قيمته .أراك مستغربا .. سوف أقول لك .. هذه النوعية من المسامير لا يتم التعامل معها إلا من خلال آلية استخدام مفك خاص . كما أن له نوع من الـ..ورد الكاوتشوك التي تحكم تثبيته ، كما انه لن يفيدك في شيء . لكن قل لي أين وجدته ؟
دعه لي ؛ لأحتفظ به في شنطة عدتي ؛ سوف ينفعني .
أما بالنسبة للكعكة فاني ...
فاتنى أن أقول لكم أن تركيب هذا الجزء الهام من المروحة ، لا يتم بهذه الصورة العشوائية التي وضع بها الكهربائي بصمته الفاشلة عليها .
سوف أفكها حالا ، و أثبت هذا الجزء الذي يصدر أزيزا يكاد يفتك برأسي ، و أنا أتكلم .
و طريقة تقطيع الفواكه لا تتم بالطريقة العادية ، إنما تستلزم ...
آه .. هذه الأعراض المرضية التي تتهامسون بها ، و تمصمصون عليها شفاهكم أعرفها تماما ؛ فلي أصدقاء كثيرون يعانون منها . ما على الشاكي حيال هذا الأمر إلا أن يستعمل عقارا واحدا .. يريح المعدة ، و يهدئ القولون .. أعرفه جيدا .. سأدوّن اسمه في ورقة لمن يحتاجه ..
و كمية البيض التي تستلزمها الكعكة هي ..
لا لا .. هذه الأعراض التي تتكلمون عنها الآن ، مختلفة تماما ، و لا تستدعى أية نوعيات من العقاقير الطبية ؛ فانا أعرف عشّابآ جيدا .. سوف أعطيكم رقم هاتفه و هو ليس ببعيد .. معي كارتا شخصيا له .. أنظروا كم هو براق .. يمكنكم الاحتفاظ به ، و سأصف لكم أيضا المكان بالتحديد ، حتى لا تذهبوا إلى غيره ، ثم أنه لن يصف للعلاج أكثر مما وصفه لصديقي ، و هي وصفة سهلة أعرف مكوناتها .
نوعية مسحوق الخبيز مهمة جدا ، لا بأس أن تكون ...
هذه المباراة التي تتحدث عنها ، لم تكن في هذه البطولة ، بل كانت في بطولة سابقة ، و لم يكن الفريقان اللذين تتحدث عنهما ، كما أن اللاعب قد أحرز هدفين ، و ليس ثلاثة ، و لم يفز بالكرة الذهبية ، و الحكم كان أوروبيا و لم يكن أسيويا كما تقول .. أكرر .. هذا اللاعب لم يفز بأية ألقاب أخرى غير لقبه المحلى ، و لا تصدق غير ذلك .. أظنه كان من جيل ....
درجة حرارة الفرن مهمة جدا ، فمن المفروض ألا تزيد عن ...
على فكرة رائحة تسرب الغاز التي تشمونها الآن ، لا حل لها إلا فك جميع عيون البوتاجاز ، و وضعها في محلول خاص سوف أجلبه لكم . قد يقول أحدهم ، لابد من تغيير الصمامات .. لا لا .. ليس مهما ؛ فهي تكلفة زائدة .
و مدة مكوث الصينية في الفرن لا يجب أن تزيد عن نصف الساعة حتى تنضج كعكة الـ .....
التي تاه عن عقلي اسمها الآن ، لكنني أعرفه جيدا.
محمد عطية محمود
الإسكندرية
قصة قصيرة
******
في حضرة الرائحة
*****
تجتاح رائحة القهوة الذكية حواسي . ترتقي بي حدا بالغا من النشوة و الحضور . طوافها المنبعث دوما ـ من مكتب مدير العمل ـ يجذبني . يجعلني ألهث ؛ حتى أبلغ سببا من أسباب تواجدي بقربه ، و الاستمتاع بهذا العبق الطاغي ، مختلطا بأثير خاص .أعلم أنه يأتي ببنها خصيصا من محل شهير و عتيق بالعاصمة ، حال سفره المنتظم لحضور جلسات مجلس الإدارة.
تحدثني نفسي في حضرته بأنه قد يتفضل علىّ يوما بفنجان أزاوج به بين متعتي التذوق و الاجتياح . لكنه يتركني في لهاثي . ينشغل عنى في أوراق عمله المرهق ، فيما بين رنات تليفونه المتوالية . يترك معي أذنه ، و هزات من رأسه ، مع نظرات متواترة من خلف نظارته .. يواجه بها بسماتي الرقيقة المتوددة في حياء ، و عيني اللتين لا تفارقان ملامحه الجادة ، و تلذذي بالرائحة .
تؤلمني رؤية باب مكتبه مغلقا ـ حين يغيب عن العمل لأي ظرف كان ـ فلا أجد بدآ من ولوج مكتب نائبه ـ على مضض ـ بحثا عن تلك الرائحة أو شبيهة بها ؛ فتخذلني ردود أفعاله البطيئة ، و تصدني رائحة عطره الرخيص ، و تذهب حواراتي المبتورة معه أدراج الرياح ، و يتنامى شعوري بحاجز يفصلني عنه .
في الجامعة .. كانت بداية ولعي بزوجتي ، و بتلك الرائحة ، التي لا تنبعث إلا من مكتب أبيها ـ أستاذي في الجامعة ـ و ظل حلما عنيدا ، استعصى على التحقيق ، أن أظل ملازما له في حجرات هيئة التدريس بعد تخرجي كزميل أصغر . لكنني آنست الرائحة في بيتهم ، لارتباطي بابنته فور التخرج ، و طابت جلساتي بغرفة مكتب حمىّ ، و في معيته ، و ظلت تأسرني رائحة جديدة للقهوة الفواحة ، التي لم تكن فناجينها لتنقطع عن سطح مكتبه العريض ؛ لتوافد أصدقائه و معارفه من ذوى النفوذ و المناصب . لكنني لم أنعم بقربهم كثيرا ، و لم أحظ بطعم القهوة المراوغ ؛ لرقدته المباغتة حتى رحيله . و صرت أفتقد الرائحة في البيت الخاوي .
زملائي بالعمل.. يجمعهم المقهى المتواضع وقت الراحة ؛ فتعلو أصواتهم بالضحكات و الخناقات .. يحتسون ما شاءوا .. يدخنون .. يتفاعلون .. لا تضايقهم رائحة المقهى الخانقة ، و لا يبالون بأشياء كثيرة قد تحدث في محيط العمل ؛ فالجدران تهمس بأن المدير سوف ينقل ، و ربما كان لنائبه دور مؤثر في إدارة العمل . و مما لا يضيرني في شيء أن يدعوني ولعي الأثير إلى تجاوز ما بيننا من حواجز ، على أمل أن تغازلني تلك الرائحة في حضرته .
محمد عطية محمود / الإسكندرية ـ مصر
في حضرة الرائحة
في حضرة الرائحة
*****
تجتاح رائحة القهوة الذكية حواسي . ترتقي بي حدا بالغا من النشوة و الحضور .
طوافها المنبعث دوما ـ من مكتب مدير العمل ـ يجذبني . يجعلني ألهث ؛ حتى أبلغ سببا من أسباب تواجدي بقربه ، و الاستمتاع بهذا العبق الطاغي ، مختلطا بأثير خاص .
أعلم أنه يأتي ببنها خصيصا من محل شهير و عتيق بالعاصمة ، حال سفره المنتظم لحضور جلسات مجلس الإدارة .
تحدثني نفسي في حضرته بأنه قد يتفضل علىّ يوما بفنجان أزاوج به بين متعتي التذوق و الاجتياح . لكنه يتركني في لهاثي . ينشغل عنى في أوراق عمله المرهق ، فيما بين رنات تليفونه المتوالية . يترك معي أذنه ، و هزات من رأسه ، مع نظرات متواترة من خلف نظارته .. يواجه بها بسماتي الرقيقة المتوددة في حياء ، و عيني اللتين لا تفارقان ملامحه الجادة ، و تلذذي بالرائحة .
تؤلمني رؤية باب مكتبه مغلقا ـ حين يغيب عن العمل لأي ظرف كان ـ فلا أجد بدآ من ولوج مكتب نائبه ـ على مضض ـ بحثا عن تلك الرائحة أو شبيهة بها ؛ فتخذلني ردود أفعاله البطيئة ، و تصدني رائحة عطره الرخيص ، و تذهب حواراتي المبتورة معه أدراج الرياح ، و يتنامى شعوري بحاجز يفصلني عنه .
في الجامعة .. كانت بداية ولعي بزوجتي ، و بتلك الرائحة ، التي لا تنبعث إلا من مكتب أبيها ـ أستاذي في الجامعة ـ و ظل حلما عنيدا ، استعصى على التحقيق ، أن أظل ملازما له في حجرات هيئة التدريس بعد تخرجي كزميل أصغر . لكنني آنست الرائحة في بيتهم ، لارتباطي بابنته فور التخرج ، و طابت جلساتي بغرفة مكتب حمىّ ، و في معيته ، و ظلت تأسرني رائحة جديدة للقهوة الفواحة ، التي لم تكن فناجينها لتنقطع عن سطح مكتبه العريض ؛ لتوافد أصدقائه و معارفه من ذوى النفوذ و المناصب . لكنني لم أنعم بقربهم كثيرا ، و لم أحظ بطعم القهوة المراوغ ؛ لرقدته المباغتة حتى رحيله . و صرت أفتقد الرائحة في البيت الخاوي .
زملائي بالعمل.. يجمعهم المقهى المتواضع وقت الراحة ؛ فتعلو أصواتهم بالضحكات و الخناقات .. يحتسون ما شاءوا .. يدخنون .. يتفاعلون .. لا تضايقهم رائحة المقهى الخانقة ، و لا يبالون بأشياء كثيرة قد تحدث في محيط العمل ؛ فالجدران تهمس بأن المدير سوف ينقل ، و ربما كان لنائبه دور مؤثر في إدارة العمل . و مما لا يضيرني في شيء أن يدعوني ولعي الأثير إلى تجاوز ما بيننا من حواجز ، على أمل أن تغازلني تلك الرائحة في حضرته .
تجتاح رائحة القهوة الذكية حواسي . ترتقي بي حدا بالغا من النشوة و الحضور .
طوافها المنبعث دوما ـ من مكتب مدير العمل ـ يجذبني . يجعلني ألهث ؛ حتى أبلغ سببا من أسباب تواجدي بقربه ، و الاستمتاع بهذا العبق الطاغي ، مختلطا بأثير خاص .
أعلم أنه يأتي ببنها خصيصا من محل شهير و عتيق بالعاصمة ، حال سفره المنتظم لحضور جلسات مجلس الإدارة .
تحدثني نفسي في حضرته بأنه قد يتفضل علىّ يوما بفنجان أزاوج به بين متعتي التذوق و الاجتياح . لكنه يتركني في لهاثي . ينشغل عنى في أوراق عمله المرهق ، فيما بين رنات تليفونه المتوالية . يترك معي أذنه ، و هزات من رأسه ، مع نظرات متواترة من خلف نظارته .. يواجه بها بسماتي الرقيقة المتوددة في حياء ، و عيني اللتين لا تفارقان ملامحه الجادة ، و تلذذي بالرائحة .
تؤلمني رؤية باب مكتبه مغلقا ـ حين يغيب عن العمل لأي ظرف كان ـ فلا أجد بدآ من ولوج مكتب نائبه ـ على مضض ـ بحثا عن تلك الرائحة أو شبيهة بها ؛ فتخذلني ردود أفعاله البطيئة ، و تصدني رائحة عطره الرخيص ، و تذهب حواراتي المبتورة معه أدراج الرياح ، و يتنامى شعوري بحاجز يفصلني عنه .
في الجامعة .. كانت بداية ولعي بزوجتي ، و بتلك الرائحة ، التي لا تنبعث إلا من مكتب أبيها ـ أستاذي في الجامعة ـ و ظل حلما عنيدا ، استعصى على التحقيق ، أن أظل ملازما له في حجرات هيئة التدريس بعد تخرجي كزميل أصغر . لكنني آنست الرائحة في بيتهم ، لارتباطي بابنته فور التخرج ، و طابت جلساتي بغرفة مكتب حمىّ ، و في معيته ، و ظلت تأسرني رائحة جديدة للقهوة الفواحة ، التي لم تكن فناجينها لتنقطع عن سطح مكتبه العريض ؛ لتوافد أصدقائه و معارفه من ذوى النفوذ و المناصب . لكنني لم أنعم بقربهم كثيرا ، و لم أحظ بطعم القهوة المراوغ ؛ لرقدته المباغتة حتى رحيله . و صرت أفتقد الرائحة في البيت الخاوي .
زملائي بالعمل.. يجمعهم المقهى المتواضع وقت الراحة ؛ فتعلو أصواتهم بالضحكات و الخناقات .. يحتسون ما شاءوا .. يدخنون .. يتفاعلون .. لا تضايقهم رائحة المقهى الخانقة ، و لا يبالون بأشياء كثيرة قد تحدث في محيط العمل ؛ فالجدران تهمس بأن المدير سوف ينقل ، و ربما كان لنائبه دور مؤثر في إدارة العمل . و مما لا يضيرني في شيء أن يدعوني ولعي الأثير إلى تجاوز ما بيننا من حواجز ، على أمل أن تغازلني تلك الرائحة في حضرته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق